أرحب بكم جميعاً … وكما عودتكم مكتبة الحكمة ضمن برامجها الثقافية والفكرية بمناقشة بعض الكتب المهمة الحديثة، نلتقي اليوم مع الأستاذ تاج السر الملك وكتابه الجديد الصادر حديثاً “أفق الأرجوان”.
تاج السر الملك هو فنان تشكيلي وشاعر وصحفي في السودان والولايات المتحدة الامريكية وناقد فني وكاتب ساخر ومصور فوتوغرافي وعازف موسيقي ومصمم كرافيك حيث أقام العديد من المعارض الفنية في عدد من البلدان ومنها بعض العواصم الأوربية، وله لوحات منشورة في كبريات المجلات الفنية المتخصصة أو أغلفة الكتب للعديد من الكتّاب والشعراء. هو أنسان متعدد المواهب والطاقات وهو فنان متميز بروحه وسرياليته واسلوبه واعماله التشكيلية وكتاباته التركيبية الساخرة والجامعة لشخصيات متعددة ومتناقضة أحياناً فيها الصوفي والبوهيمي الى حد الاهمال واللامبالاة والعبث… وأحياناً أخرى الملتزم والمنضبط الى حد التطرف من الحرص قد يصل الى البخل والشح.. وبعدها الى الكرم الى مستوى التبذير. نراه بفرح طفولي وسعادة وبراءة الاطفال سرعان ما ينقلب الى حزن وأكتئاب وغضب وبكاء عبر اللعب بمفردات اللغة العامية السودانية الدارجة وهكذا نراه ضمن هذه الخلطة يبحر بقاربه ويطفو متحدياً بإباء كل العواصف والأمواج العاتية. وأحياناً كفراشة تطير بين الأزهار.
وعند التعمق في تحليل هكذا هالة وشخصية نراها ما هي الا تعبير صادق لما يمر به الأنسان العربي والمجتمع والوطن من تقلبات وصراع بين قوى الظلام في الخارج والداخل على هذا الوطن العربي وهذا الأنسان النقي البريء الذي ليس لديه حيلة غير هذه الأنسانية المعذّبة ورهانها على التحدي والإصرار على الحياة والوصول الى مستقبل أفضل والخلاص مما هو فيه من واقع مر لأن الأستسلام هو الأنتحار وليس له خيار الا بأسلوب مقاومة الظلام والظلم بالمرونة لعدم الأنكسار وهو أحساس فطري عفوي تجاه التحديات والصعاب من خلال السخرية والأبتسامة التي ترطّب الروح حتى لا تجف وتحترق. والعمل الأخير كتاب ورواية “أفق الأرجوان” هو عمل أدبي ممتع لتاج السر كما هو في كافة أعماله يحاول أن يصور الواقع من خلال التبسّط أبتداءاً بالعائلة والأسرة الصغيرة وما تحمله من قيم المحبة وروابط التعاون والتكافل ولكن سرعان ما تختلط الألوان والصور عندما يخرج الفرد خارج محيط الأسرة وأصطدامه بالواقع سياسياً وأجتماعياً وثقافياً وأقتصادياً ومن فساد إداري في السلطة التنفيذية حتى يصل الى القانون والقضاء والمفترض به أن يكون أخر حصن يلتجأ اليه المرء والمظلوم. وعندها يجد نفسه ينطح رأسه بالصخر من أجل التغيير نحو الأفضل للحصول على أبسط حقوقه وهو خائب الرجاء .. ويجد نفسه مقهوراً ومذلولاً أحياناً من قوى أكبر منه ليرجع الى البيت بعقد جديدة لتنفيس هذا الغضب على أفراد أسرته والمحيطين به في إستئثار وطمع وقهر لتنفيس عقد الخارج وبعدها لا يجد مخرجاً له أما بالأستسلام وأنتحار الأمل أو أحياؤه من خلال أمل الهجرة ليبدأ رحلة ومعاناة جديدة من أجل أثبات نفسه والحصول على التغيير الذي يطمح له.
أخوتي الأفاضل … وكما أعتدنا في تقديم كل أمسية لابد من أيصال الرسالة الأهم وحتى وأن تكررت وذلك لأهميتها في محاولة لأدراك الواقع المر الذي تعيشه الأمة العربية والأسلامية مع عدم اليأس والأستسلام وذلك من خلال تشخيص المرض والعطب الأهم الذي يعانيه الأنسان بشكل عام والعربي بشكل خاص ألا وهو القيم والأخلاق والمبادئ والتي هي حجر الأساس لبناء الأنسان والمجتمع وبالتالي الحضارة. وهنا لابد لي من أن أُشير وأُشيد بأخ وصديق فاضل وأستاذ كبير سبق وأن كان معنا في هكذا أمسيات ألا وهو الأستاذ صادق سليمان الكاتب والمفكر الفلسفي والدبلوماسي العُماني السابق والذي أستحضر ذكراه اليوم وأستعير بعض أفكاره التي تتطابق وتتناغم مع أفكارنا وبتصرف من حيث التشخيص في أولويات العطل الذي لابد من معالجته كخطوة أولى والتي سبق وأن أكدنا عليها في كل مقدمة وبحث ألا وهي القيم والمبادئ والأخلاق من خلال الرجوع الى العقل السليم وتحريره من تبعية السمع والطاعة العمياء والأئتمار بأمر الأخر بدون التفكير وذلك من خلال التمسّك بالفروع والقشور وترك وأهمال الأصول حيث:
1. يجب ممارسة السياسة والدين بمنهجية وبدون تعميم بعيداً عن سيطرة تجار السياسة والدين لأنهم بشراً مثلنا لهم شهوات وأطماع وحدود معرفية تؤثر في قراراتهم ومواقفهم.
2. الدين هو وسيلة لتعليمنا القيم الأنسانية مثل العدل والحرية والخير والشر وحسن التعامل مع الأخر.
3. يجب التفكير ومعرفة مقدار ثروة تجار السياسة والدين والأعلام ومصدرها وأن نتذكر أن الأنبياء والمصلحين كانوا فقراء.
4. أن لا تُصدق ما يقوله الأخر كمسلمّة لابد منها بل يجب البحث عن الحقيقة بأنفسنا.
5. أن لا نقبل أن نكون ضحية المعرفة السمعية بل يجب أن نكوّن رأينا بعقولنا لأكتشاف الحقيقة.
6. أن يكون ذهننا منفتح على القراءة الحرة والأطلاع على جوانب كل الصورة لأن الشهادة الأكاديمية بدون قراءة حرة لن تحررنا من الجهل بالحياة والمجتمع.
7. أن لا ننظر ونفكر ونقيّم الأخر من خلال دينه ورأيه السياسي بل من خلال كونه بشراً وأنسان أولاً مثلنا تماماً وله نفس المشاعر والأحاسيس والأحتياجات الأنسانية وبالتالي هذا ما يجعلنا متحضرين
فكم هو مؤسف أن يرفض البعض مهنة تلميع الأحذية لتدني مستواها الأجتماعي ولكنه يتسابق لتلميع أشخاص أقذر منها من حيث القيم … حيث من عاش بلا مبدأ مات بلا شرف وكما أن ليس من العيب بأن تحب أهلك وعشيرتك ومدينتك ووطنك وقوميتك ودينك وطائفتك إذا لم تتجاوز هذه المحبة والرحمة التطرف والعنصرية وذلك بأن تقدّم وتفضّل أشرار قومك على خيار الأخرين.
وحيث أن أخر ما أستقر فيه الوعي البشري أننا نعيش في عالمنا الأرضي في جسم كروي سابح في فضاء شاسع يتشارك فيه سكناً شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً أمماً بشرية مختلفة الأعراق والديانات والثقافات واللغات وكوكبنا الأرضي ماهو الا جزء صغير من عالم أكبر وأوسع في حركة ودوران تسبح فيه المجموعات الشمسية ضمن مجرات متباعدة عن بعضها البعض بأستمرار.. أما في عالمنا الأرضي فمنذ نشوء الحياة على الأرض وتفرعها مع الزمن الى أجناس مختلفة بالطبيعة وظهور الأنسان وتطوره برقي وذكاء معيشياً وعضوياً وعقلياً ومعرفياً ولكن مع الأسف حدثت المفارقة فبدلاً من أن يؤدي توظيف ذلك كله الى تعاون وعدل والذي هو من جوهر الأخلاق والقيم بما يُثري الحياة والخبرة الأنسانية لما هو سليم ونافع وحضاري للجميع برزت نزعات سلبية من الإستئثار والتسلط والأستعمار مُسخّرة القدرات العلمية والعملية المستجدة وجاعلةً من قيم الدين والفكر الأنساني العلمي والعلماني الى مجرد شعارات وتجارة فاسدة متناقضة مع أصل الأشياء وبالتالي أصبح هذا النمط العام والسائد، وأن المتمسك بالعدل والخُلق والقيم هو حالة أستثنائية أو شاذة أحياناً نظراً لعدم التجانس والتزاوج ما بين التقدم العلمي والألتزام الأخلاقي كأساس مما يولّد الكوارث والحروب والدمار ليس على الأمم والأنسان فقط بل على الطبيعة والكوكب الذي نعيش فيه ومع الأسف نراه يفيق أحياناً من شدة وجع وألم الكارثة أثر الحروب والدمار مثلما يعقب ذلك بعد حروب عالمية أو كبيرة وطويلة طاحنة.. تُزهق فيها أرواح العشرات من الملايين من البشر ودمار المجتمعات والدول ولكنهم سرعان ما ينسوا أو يتناسوا ذلك ويعيدون الكرة …نتيجة لعدم الألتزام بمبدأ التجانس والتزاوج ما بين التقدم العلمي والألتزام الأخلاقي ولكي نرى ذلك لابد من الأنطلاق من نقطة الصفر بخطوته الأولى ألا وهو الفرد والجماعة والمجتمع الواحد وبذلك نوفر المناعة والقوة الداخلية للحماية من الأعراض الخارجية فلا تستقيم الأمور بالبكاء والعويل والإشارة الى الخارج والأخر فقط ..وفي الداخل نمارس نفس الجرائم ما بين الأفراد والجماعات ضمن المجتمع الواحد وأننا نرى أن التاريخ سجّل لكل أمة أسهامات أيجابية وأخرى سلبية …حيث ليس هنالك أمة خالصة مجرمة وملوثة وأخرى بريئة ونقية ..وبالتالي على الجميع الرجوع الى العقل والتمسك بطريق تجنب التخاصم من خلال السلم والتعاون والتواصل من أجل أعلاء الأنسان والأنسانية حضارياً وتنموياً أبتداءاً من الفرد والمجتمع الواحد ومروراً الى المجتمعات الأخرى متجاوزين بذلك عقلية القوي والضعيف والكثرة والأقلية …فالمشكلة القديمة الحديثة هي مشكلة الأخلاق والمبادئ والقيم والعدل والمساواة والديمقراطية لأنها حجر الأساس لبناء الأنسان والمجتمعات والتي يجب تثبيتها وترسيخها في التربية والتعليم منذ النشأ الجديد كواجب على العائلة والمدرسة والمجتمع ومؤسساته الدينية والثقافية والأعلامية وللدولة عبر مبادئ أساسية في الدساتير الوطنية والدولية كقوانين وأعراف ثابتة ومنها ما ترتقي أن تكون مطلقة كما سبق وأن أشرنا اليها إضافة الى قيمة العلم والصحة والأيمان والتعاون والتقدم للرخاء …لأنها مطلقة النفع العام ومنها ما هو نسبي مثل الكرم والشجاعة والطموح لأنها عند تجاوزها حد المعقول تنقلب الى الضد مثل التبذير والتهور والطمع، ولما كان النفوذ والمال لا يُغني عن الفضيلة ولا المهارة عن الإستقامة ولا الراحة عن التفكير السليم لرُقي العقل والضمير. ولذلك فمحصلة الدرس المستفاد أن أي تغيير في حال الأنسان من الخارج لا يؤدي الى حدوث تغيير في الداخل بالضرورة بل العكس هو الصحيح فأن التغيير الأيجابي من الداخل بالضرورة سيؤدي الى تغيير أيجابي في الخارج بما ينضح أيجابياً في التعاطي مع بعض المسلمات في حياتنا العملية اليومية. وهو ما يجب أن يُدرك أن أهم ما يُعيق رقي الأفراد والأمم عبر التاريخ وكان مصدراً لتعثّر الحضارات التي سبقت وسبب خروجها من سلّم الرقي والتقدم وهو نتيجة طبيعية لسلوك الأفراد لعدم إدراكهم بما هو نافع لهم وإستثماره لمنفعتهم وما يجب أن يُقدموا عليه ولم يتخذوا له سبيلاً بخطوة. وعند التمييز والنظر لما هو صالح لهم ولا نجدهم يعملون به، أما بالنسبة للأمم فبأستمرارها وأفرادها على الخطأ والسوء رغم علمهم به وأنه أسوأ بكثير من أقترافه بجهل وبعدم المعرفة. وهذا ناقوس الخطر للأمم والأفراد عند عدم الإقدام على الأصلاح والصلاح بالرغم من بشاعة صورة الواقع الحاضر والمستقبل المظلم الذي أمامهم.
وأخيراً أخوتي الأفاضل أترككم مع الأستاذ تاج السر الملك في أمسية جميلة ومميزة وكما عودنا في أسلوبه الساخر والسهل الممتنع. كما أتمنى من خلال تفاعلكم ونقاشاتكم الحوارية أن تُغني أفاق أبعد مما تناولها الكتاب الجديد للإستفادة من خبرة وسعة أفق الكاتب وخصوصاً لما يجري في الشأن السوداني نموذجاً من تغييرات وأفاق المستقبل والتي هي ليست ببعيدة عما يجري في الوطن العربي بشكل عام.
وشكراً لحضوركم جميعاً