تزامناً مع المظاهرات التي اجتاحت بعض المحافظات العراقية لابدّ من تسليط الضوء على أمور مهمة كثيرة ، ولابدّ من قول الحق حتى وان لن يعجبَ الكثير . ومن الجدير بالذكر أنني في هذا المقال لستُ مدافعاً عن الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية وعن السياسيين ، بلْ هم يتحملون نسبة كبيرة من وزرَ الاخفاقات والفشل المتواصل على مرّ السنين . وفي نفس الوقت يجب علينا من باب الانصاف وضع النقاط على الحروف بكلّ أمانة وجرأة من أجل تشخيص الخلل ومن ثم الشروع بالحلول الصحيحة ان أردنا فعلا العبور الى ضفة النجاة . وأوجز أدناه بعض النقاط المهمة :
أولا : بالرغم من ملامح الفشل والتقصير من قبل السلطات التنفيذية منذ عام 2003 ولحد الآن فان الشعب العراقي يشارك بنسبة معينة لتكريس هذا الفشل نتيجة وقوعه في تناقضات كثيرة جعلته يمشي على مسارات متعرجة بخطى مرتبكة غير ثابتة . فتراه متخبطا في تفكيره وفي انتماءاته ولا يستطيع الخروج من تلك المسارات العشوائية . والسؤال الذي يطرح نفسه من هم جماهير الحزب الفلاني والحزب العلاني والتيار الفلاني والتيار العلاني ، أليسوا هم من الشعب العراقي ؟ ولو أجرينا عملية احصائية بسيطة لوجدنا الكثير من أبناء الشعب ينتمون الى مختلف الأحزاب السياسية والتيارات والمنظمات ، حتى وصل العراقيون الى درجة الجري وراء الكتل السياسية المختلفة طمعا بمنصب معين أو بمصلحة معينة . وبالتالي فهم جزء لا يتجزأ من الخارطة السياسية وهم يشاركون بشكل غير مباشر باي تقصير أو فشل .
ثانيا : ثمةُ قاعدة حضارية مهمة مفادها أن أي شعب لا يحترمُ الأنظمة والقوانين لا يمكن لهُ أن يرتقي الى مستويات العيش الكريم . فهل الشعبُ العراقي ( أو معظمهُ ) يطبق هذه القاعدة التطبيق الصحيح ؟ لنترك المجاملات ولنقول كلمة الحق بمنتهى الجرأة طالما أننا نريد ايجاد الحلول الصحيحة ، فالشعب العراقي تعوّد منذ زمن بعيد على الاستهانة بالقوانين وبالأنظمة ومحاولة ابتداع ألف وسيلة ووسيلة من أجل تحريف مفاهيم تلك القوانين ومن ثم التجاوز عليها . والواقع الملموس يبين لنا الكثير من المشاهد التي تثبت ذلك . وأصبح الانتماء العشائري العكازة التي يتعكز عليها المتمردون للإطاحة بأي قانون يتعارض مع مصالحهم وفق باب الوعيد والتهديد ورفع السلاح بوجه من يريد تطبيق القوانين . وهذا الأمر يؤدي بشكل مباشر الى نمو الفساد بكل اشكاله ابتداء من أبسط موظف الى أعلى مركز وظيفي .
ثالثا : الشعور بالمسؤولية أهم الخصال التي تتمتع بها الشعوب المتحضرة التي تسعى نحو تحقيق الحياة السعيدة . وللأسف الشديد فان معظم أبناء الشعب العراقي ( ان لم أقل جميعهم ) فقدوا الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن وتجاه المصلحة العامة . وصار الجميع يتنافسون فيما بينهم على فرض الأمر الواقع بمنطق القوة بعيداً عن معادلة الحقوق والواجبات . وأصبح المواطن يتفاخر بحصوله على مكاسب كثيرة على حساب الآخرين . وجزء كبير من مشاكل الخدمات ومشكلة الطاقة الكهربائية يتحملهُ المواطنون نتيجة عدم شعورهم بالمسؤولية و نتيجة روح الأنا التي تدفعهم للتجاوز على حقوق الآخرين بكل الوسائل المتاحة لهم . والأمثلة على هذه النقطة كثيرة جدا والجميع يرونها بوضوح ، ومع هذا يغضون النظر عنها . فالتجاوزات الكثيرة على شبكات الطاقة الكهربائية دمّرت هذه المنظومة بنسبة كبيرة جدا ، اضافة الى عدم وجود حرص كبير من أجل ترشيد استهلاك الطاقة الكهربائية . والذي يتجاهل هذا الأمر عليه أن يعرف أن أغلب العراقيين تطبعوا على هدر الطاقة الكهربائية وحتى هدر الماء دون أدنى قدر من الاحترام لعصبي الحياة الكهرباء والماء .
رابعا : المواطن النبيل الذي يعشق وطنه لابد أن يحافظ عليه بمنتهى الأمانة والاخلاص ، وأن يحميه من الخراب والدمار ، وهذا هو مبدأ المواطنة الصادقة . ولكن الذي يبدو أن العراقيين يحاولون تخريب وطنهم وتشويه صورته الجميلة بشتى الطرق والوسائل . فالوطن ليس ملك رئيس الجمهورية أو ملك رئيس الوزراء أو ملك أي مسؤول أو سياسي ، بل هو ملك المواطنين العراقيين . وللأسف نلاحظ الكثير من التصرفات العجيبة الغربية التي من شأنها الحاق الضرر بصورة الوطن . والأمثلة على هذه النقطة كثيرة جدا ، فالتجاوز على أرصفة الشوارع وضمها الى البيوت السكينة ، والتجاوز على الأماكن المحرمة ، والبناء العشوائي دون الحصول على اجازة البناء ، وحفر الشوارع والطرق المعبدة من قبل المواطنين …. كل ذلك يلحق الضرر الفادح بالوطن ويعيدهُ الى الأزمنة المتخلفة بدلا من تجميل صورته . وقد وصلَ الحال ببعض المواطنين بربط منظومة مجاري بيوتهم بأحواض ( مانهولات ) مياه الأمطار الموزعة على جوانب الشوارع لاستسهال الموضوع دون أيّ شعور بالأضرار التي ستلحق بمنظومات شبكات مياه الأمطار . والويلُ كلّ الويل لمن يقول لهم كفاكم تخريباً وتدميرا للوطن ، والذي يحاول ابداء النصيحة عليه أن يتحملَ تبعات ( الفصل العشائري ) الظالمة .
خامسا : الجميعُ يتحدثون عن الفساد الاداري والمالي ويطالبون بالتصدّي له ، وفي نفس الوقت الأكثرية من الشعب العراقي مشاركون مشاركة فعلية وفعالة فيه . ومن يتصور أن هناك فرق بين سرقة بعض الآلاف من الدنانير وسرقة المليارات فهو واهمٌ جدا لأن السرقة مهما كان حجمها تعتبرُ جريمة نكراء ترفضها الأديان السماوية والقوانين الوضعية . كما أن تعاطي الرشوة بمختلف أحجامها وألوانها عاملٌ من عوامل تهديم المجتمع وتمزيقه . والطامة الكبرى أن البعض يحاولون تبرير الرشوة على أنها هدية وهو يعلمُ جيداً أنها ليست كذلك وانما لإقناع نفسه والآخرين . وثمة سؤالان مهمان : السؤال الأول ان كانت الطبقة السياسية فاسدة ، فلماذا يلجأ المواطنون الى الفساد ؟ والسؤال الثاني : ان كان الشعب العراقي يرفض الفساد ويتظاهرُ ضدّهُ فمن هم المفسدون اذن ؟ هل أن المفسدين قدموا الينا من بلد آخر أم من كوكب آخر ؟ أليس مراقبو البلديات من الشعب العراقي ؟ أليس عمال صيانة الكهرباء من الشعب العراقي ؟ أليس العاملون في المستشفيات والمراكز الصحية من الشعب العراقي ؟ أليس العاملون في دوائر الدولة كافة من الشعب العراقي ؟ ونحن نعلم ونعرف جيدا أن معظم أولئك يتعاطون الرشاوي من أصغر موظف الى أكبر موظف وفق تبريرات كثيرة .
سادسا : لا يمكن اصلاح السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية دون أن يبدأ المواطنون بإصلاح أنفسهم . فالخطوة الأولى الصحيحة يتكفلُ بها المواطن ، وهذا هو المعمولُ بهِ في جميع البلدان المتطورة . وحين يجدُ المسؤولُ التزام المواطنين بالأنظمة والقوانين ويلمسُ الشعور بالمسؤولية لديهم وحين يرى اخلاصهم الكبير للوطن فانهُ لابدّ أن يخضع لهذه الخصال العظيمة . والمسؤول الذي يجد المواطنين في أعلى مستويات النضج والنزاهة لا يمكنه الاستمرار على طريق الانحراف والشذوذ والفساد . ولكنه حين يرى المواطنين دون مستوى المواطنة الصحيحة فانه يجدُ المجال مفتوحاً أمامهُ لفعل ما يشاء دون خوفٍ أو رادع ومن المعروف أن الشعوب هي التي تصنع القادة العظام أو القادة الفاسدين . والشعبُ الذي يريد أن يتظاهرَ ضدّ المفسدين عليه أن يتظاهرّ ضدَ نفسه أولا لأن مفاتيح الاصلاح بيد الشعوب وليس بأيدي الحكام .