18 ديسمبر، 2024 6:07 م

كلمات مغلفة بالوجع

كلمات مغلفة بالوجع

لا أحد منا يشبه الآخر وإن ماثله في أغلب تفاصيله فالإنسان كيان معقد للغاية رغم البساطة التي قد يبدو عليها أحياناً، لذا علينا ألا نتوقع أن ردة فعل أيٍ منا تجاه أمرٍ ما ستكون نفسها لدى الغير، فلكلٍ منا آرائه وأفكاره ومشاعره وطريقته في التعاطي مع الأمور حتى وإن بدت غير مألوفةٍ بالنسبة لنا أو خارج ما اعتقدناه من المسلمات..

وماقد يبدو غريباً بالنسبة إلينا قد يكون كذلك لغيرنا لكنه استطاع التأقلم معه والوصول إلى فلسفةٍ تمكنه من الإعتياد عليه، بحيث يخفف من حدة إحساسه به أو يحوله إلى مصدرٍ للقوة والإلهام والعطاء، وبطبيعة الحال فإن خصوصية البشر أمرٌ مقدس لا ينبغي المساس به تحت أي ذريعة إلاّ في أضيق الحدود، وفقط ضمن علاقاتٍ تتسم بالحميمية والقرب الشديد لأننا قد لا ندرك حقيقة ما يقبع هادئاً خلف ملامح يكسوها الهدوء، ومن أهم تلك الأمور الخاصة والتي يقحم الكثيرون أنفسهم فيها تأتي مسألةٌ كالإرتباط أو الإنجاب لتكون أبرزها وأكثرها حساسية..

فبعيداً عن كون الموضوع شخصياً إلاّ أن الموضوع يظل أعمق بكثير مما يبدو كونه قد يرتبط بظروف ٍ أو حالة أو مشكلة نفسية أو جسدية، سواءاً كانت تخص أحد الطرفين أو كليهما في العلاقة أياً كان نوع تلك المشكلة، ولا يجب أن تخرج تفاصيلها للعلن حفظاً للكرامات ولقدسية وخصوصية الرابط الذي يجمع بين أي شخصين، أو قد يكون أحدهما متأثراً بحدثٍ أو مجموعةٍ من المشكلات الشخصية التي تركت أثرها في نفسه ودفعته ليختار عدم الإنجاب طواعيةً أو بإتفاقٍ مسبق مع شريك الحياة، أو حتى اختيار عدم الإرتباط بسبب هذه النقطة تحديداً وما تحمله من حساسية أو تعقيدات أو شعور بالنسبة لصاحبها أو صاحبتها وعدم وجود الشخص المناسب القادر على التعامل معها بتوازن ووعي وتفهم وإدراك واحتواء للطرف الآخر، ومن هنا جاءت حميمية وقدسية (العلاقات الحقيقية) كونها تنفذ إلى أعمق نقطة في كيان الإنسان وتكون لديه ذلك الشعور بذاته وبالأمان لتخلق نوعاً من الإستقرار والتكامل والسكينة التي تنعكس على الطرفين بشكل أساسي وعلى الأطفال إن وجدوا لاحقاً..

وبكل أسف لا زالت مجتمعاتنا تتعامل مع موضوع تكوين الأسرة بشكل سطحي أو عشوائي ينظر للموضوع كجزء من إكمال (الصورة الإجتماعية) أو (الواجب) من خلال منظور يعتمد على الخطابات الإنشائية البعيدة كل البعد عن الواقع من دون أي تحديث لمعلوماته والنظر من حوله بتمعن لمواكبة المستجدات أو النظر في التفاوت والإختلاف بين الناس، أو حصر فكرة الإنجاب في القدرة الجسدية والمادية بعيداً عن العاطفة والتربية والتثقف وتحمل المسؤولية والتصرف كقدوة، وبعيداً عن التساؤل حول القدرة النفسية والوجدانية لأي شخص والتي تؤهله للقيام بهذه الخطوة قبل أي شيء آخر، فنحن اليوم عالقون وغارقون بين نماذج متناقضة كفئة تحاول تنشئة الطفل على عادات لا تشبه بيئته كنوعٍ من المحاكاة للتربية الغربية دون أن تدري أنها تقوم بكارثة ثقافية وإنسانية بحق كيان صغير سيكبر ليجد نفسه غريباً في محيطه، والذي سيبدأ بالصراع معه باكراً لأن كليهما مختلف عن الآخر بشكلٍ جذري، أو كفئة مناقضة لها ولا زالت تنظر إلى موضوع الإنجاب بنفس المنظور الذي تربت عليه منذ أكثر من نصف قرن والذي كان له العديد من سلبياته كما كانت له ايجابياته، دون أن ننسى وجود فئات غير مهتمة أساساً بتكوين أسرة أو تربية طفل ولا تفضل الإقدام على إنجاب طفل تعترف أنها غير مؤهلة لتحمل مسؤولياته..

وعلى اختلاف طرق التفكير والتربية والعديد من المستجدات والمتغيرات المخيفة والأعباء لا يجد الكثير من الأطفال لهم مكاناً في هذا العالم، حيث تتراجع فرصهم في الحصول على الغذاء والتعليم والصحة وتزداد نسبة تشغيلهم والإتجار بهم، لا يزال هناك من يقحم نفسه في خصوصيات الآخرين لمعرفة سبب عدم ارتباط البعض أو انجابه مع أنه لن يقدم شيئاً له ولن يقوم بمساعدته أو حتى التخفيف عنه إن احتاج إلى ذلك، كما أنه لا يعرف ظروفه أو شعوره الحقيقي وسط هذا الواقع، وقد لا يعرف كم يتألم حتى وإن كان ذلك بمحض اختياره لأننا أحياناً نختار المر لتجنب الأكثر مرارة، وفي ظل سعي الغالبية للظهور بأفضل (صورة) ممكنة بغية تصديرها للآخرين، حبذا لو كنا نسعى لتجميل أفعالنا بمراعاة شعورهم واحترام ظروفهم وصمتهم وخصوصياتهم دون أن يطلب منا ذلك والتفكير في عواقب الكلمات وأثرها قبل أن نقولها..