مرّ العراق بتحديات خطيرة ومصيرية خلال السنوات الأخيرة الماضية، بعد اجتياح الإرهاب لمساحة واسعة من البلاد، في غضون ثلاثة أعوام تم استعادة تلك المناطق والمدن بغالبيتها العظمى، انتصار عسكري مذهل أشاد به الجميع ولكن كانت التكلفة المادية والبشرية عالية، ولئن بدا أن الخسائر البشرية غير قابلة للتعويض، فإن الخراب الجسيم الذي طال البنى التحتية لا يبدو وفق الحسابات الاقتصادية أمرا يمكن معالجته وتعويضه بسهولة، ولاسيما إذا أضفنا إليه تهالك البنى التحتية في عموم المحافظات قبل أن تجهز معارك تظهير المحافظات الغربية من رجس الإرهاب على القدر الذي كان متوفرا من بنية المؤسسات الخدمية، وبالمجمل يقدر خبراء اقتصاديون أن كلفة إعادة الإعمار في البلاد مما نالها خلال العقود الأخيرة قبل 2003 و ما بعد هذا التاريخ وحتى عام 2017 تصل إلى تريليون دولار أمريكي، أي ألف مليار دولار، وهو مبلغ يقصم ظهر موازنات الدولة العراقية لعشرات الأعوام القادمة خاصة إذا أضفنا إليه عاملين متحركين آخرين، هما زيادة الإنفاق الحكومي بفعل التضخم وزيادة نسبة السكان الآخذة بالارتفاع المستمر، و كلفة ترميم وتحديث النبى التحتية وتطويرها وهو أمر طبيعي متوقع، حيث إن الإنفاق على تحديث المؤسسات الخدمية وتطويرها أمر يكلف كل موازنات الدول في العالم قدرا غير قليل من الأموال..
كل هذا في ظل اعتماد العراق على واردات النفط بدرجة أساس، مع هامش تغطية بسيط من إيرادات متنوعة أغلبها تأتي من الجباية الجمركية والضرائب!! والحقيقة أن كلفة الإعمار (ألف مليار دولار) كلفة صادمة ولا يمكن أن تتحملها الموازنات الحكومية، حتى لو خصصت جميعا لهذا الملف فقط ولمدة خمسين عاما أخرى.. مع توقع أن تستمر ذبذبة أسعار النفط أو استقرارها على سعر يتراوح بين 65 و 75 دولارا، فما الخطط التي وضعها الساسة العراقيون الذين يتخمون شعاراتهم اليوم بالوعود الفضفاضة و العبارات الحماسية المزوقة؟ كيف يمكن معالجة هذا الاختلال في معادلات الاقتصاد العراقي وإعادة بناء البلاد؟
هذا ما يجب أن يتم التركيز عليه، وما يجدر بالحكومة العراقية ومؤسساتها المعنية التنفيذية والتشريعية التفكير فيه، عبر الاستعانة بالخبراء والمختصين، المحلين والدوليين، ولسنا هنا بصدد طرح تصورٍ لمعالجة هذا الوضع الذي ينبئ بكارثة، ولكننا فقط نشير إلى نقطة هامة، أو موضوعة واحدة تتعلق بماهية السبل والمعالجات التي تجنب المواطن العراقي الصعوبات والعواقب التي يمكن أن تنزل بساحته وتضيق عليه سبل المعيشة أكثر مما يعاني منه الآن.
ففي ظل هذه الحقيقة التي ذكرناها ستلجأ الحكومات القادمة إلى محاولات تقليل الإنفاقات وزيادة الضرائب و الاستغناء عن سياسة التعيين الحكومي بشكل شبه كلي، وما يصحب ذلك من احتمالات زيادة معدلات التضخم التي ستلقي بعبئها الأكبر على الشرائح المتوسطة و الفقيرة، فمن المفروغ منه وفي ظل اعتماد العراق على النفط كمصدر رئيس لموازنته الاتحادية أن أية خطط للإعمار ستعتمد على استقطاعات هائلة من تلك الإيرادات، الأمر الذي يعني ضرورة اتخاذ إجراءات وسن قوانين تحفظ للمواطن حقوقه في العيش الكريم، ولا نرى أن ثمة حلا أفضل من تخصيص قدر محدد من عائدات النفط بحيث تكون حصة المواطن محفوظة له، وهو ما أقر من قبل البرلمان ضمن مشروع شركة النفط الوطنية وتحت مسمى صندوق المواطن، فهذا الأمر سيسهم في حال تطبيقه بالدفع تلقائيا اتجاه تأمين وضع المواطنين والتفكير في إيجاد حلول بعيدة من اعتماد تلك الإيرادات النفطية، والتخلي عن الفكر الريعي المسيطر على ذهنية المخطط والمنفذ للقرار الاقتصادي في العراق. ولا يبدو أن القانون المشار إليه سينفذ بسلاسة، فقد تظهر اعتراضات أو شكوى طعن لدى المحكمة الاتحادية كما أشار إلى ذلك وزير النفط السابق إبراهيم بحر العلوم،محذرا من أن أطرافا تؤمن بالاقتصاد الريعي تسعى للطعن بالقانون لدى المحكمة الاتحادية وتحديدا بخصوص المادة التي تنص على توزيع جزء من الثروة النفطية على المواطنين. وقد يكون هذا التوقع صائبا وسنرى ذلك بعد نهاية الانتخابات التي لا تسمح أجواء موسم الدعاية قبلها باتخاذ موقف سلبي تجاه هذا القانون..
وعلى أية حال فإن هذه الخطوة لوحدها غير كافية في تأمين مستقبل المواطن الاقتصادي، ليبقى ملف الاستثمارات هو الملف الحاضر الغائب، فحل جزء كبير من مشاكل البلاد الاقتصادية يتوقف على تحريك هذا الملف واتخاذ سياسات وتشريعات تكفل جذب ما لا يقل عن 75 مليار دولار سنويا، وهو أمر سيبقى طموحا صعب المنال في ظل مشكلتين أساسيتين، هما الفساد المستشري في مؤسسات الدولة العراقية، و البيئة غير المستقرة سياسيا وأمنيا، فهي بيئة طاردة للمستثمرين.