تلجأ التنظيمات أو الحكومات إلى صناعة الشخصيات الرمزية باعتبارها من أكثر الأدوات تأثيرًا، حيث تتحول هذه الشخصيات إلى رموز تجسد القيم والمبادئ التي تسعى الأمم أو التنظيمات إلى تحقيقها. أما في العراق، فإن صناعة الرمزية تأخذ منحى مختلفًا عن مفهومها التقليدي، إذ لم تُبنَ هذه الرموز أو يُخطَّط لها بدقة لتعزيز الهوية الوطنية أو دعم مسارات التنمية والإصلاح، بل جاءت في الغالب كردّة فعل على رمزية أخرى غير موفقة، فبينما نشأت الرمزية الأولى في سياق تعقيدات الواقع السياسي السني وتحولاته، جاءت الرمزية الشيعية كردّ مضاد، حيث تبنّت قوى الإطار التنسيقي هذه المهمة، حيث عملت على صناعة شخصيات رمزية، بعضها ذات طابع عسكري وأخرى ذات بعد سياسي، لكن بدلًا من توظيف هذه الرمزية في بناء خطاب وطني يشكّل ردًّا إيجابيًا على الرمزيات الأخرى، تحوّلت إلى مواجهة قائمة على الدوافع الطائفية والمصالح الضيقة.
تحولات الرمزية العسكرية من شاكر وهيب إلى أبو عزرائيل
مع تزايد سيطرته على مساحات شاسعة من العراق، عمل تنظيم داعش على تصدير شخصيات رمزية عديدة تحمل ابعاد تتجاوز الأهداف العسكرية الى مستويات التأثير النفسي والإعلامي، من بين تلك الرمزيات التي صدرها بشكل اعلامي وشعوبي هو ما يعرف باسم “شاكر وهيب” وهو مقاتل من محافظة الانبار، حيث قدمه التنظيم في اصدارته الإعلامية المكثفة وهو يظهر يرتدي زيًا عسكريًا وقبعة تشبه تلك التي اشتهر بها تشي غيفارا، وأحيانًا أخرى بعمامة سوداء وسلاح كلاشينكوف لا يفارقه، مع عبارات بالتهديد الوعيد لأعداء التنظيم.
حاول التنظيم من خلال تصدير هذه الرمزية لتحقيق هدفين الأول تمثل في توجيه رسائل مبطنة الى الشباب السني باعتبار “الوهيب” ايقونة جهادية محلية مؤثرة تستهدف استقطاب الطامحين والمتذمرين السنة للانضمام الى التنظيم، والهدف الثاني هو مخاطبة خصومه من القوات الأمنية والحشد الشعبي والعشائري عبر خلق صورة رمزية توحي بالتحدي والتصدي لقتالهم في محاولة لتعزيز صورة التنظيم العسكرية وإعطاءالصراع الحاصل بعداً طائفياً عبر هذه الشخصية.
دفعت هذه الاستراتيجية بعض قيادات الإطار التنسيقي إلى البحث عن رمزية موازية تهدف لتحقيق نفس الغرض الذي أُنشئت من أجله رمزية “الوهيب” في تنظيم داعش، إلا أن هذه الاستراتيجية لم تعمل على تقديم رمزية تظهر دور الجندي العراقي وتقدير تضحياته، بما يسهم في تعزيز مكانة الجيش العراقي وتقوية تأثيره في ميدان القتال، وتحفيزه على الاستمرار في الدفاع عن الوطن، والحد من حملات التشويه التي تعرض لها عقب سيطرة داعش على الموصل ومحافظات عراقية عديدة.
انما جاء اختيار الرمزية وفق معايير اخرى، حيث تم اختيار شخصية أخرى عرفت باسم “أبو عزرائيل” لتملأ هذا الدور، اذ تم تقديمه كرمز اعلامي جذاب بفضل ما يمتلكه من مقومات جسدية، فهو مفتول العضلات، حليق الرأس، وكثيف اللحية، بالإضافة إلى خلفيته التي تعكس نشأته في المناطق الفقيرة.
حيث تم الترويج له بأسلوب شعبوي من خلال توظيف أدوات رمزية مثل الفأس والسيف، وابتكار عبارات شعبية مثل “بالبايسكيل” و”إلا طحين”، التي تحولت إلى شعارات مشهورة لدى العديد من العراقيين ضد داعش، ومع تعزيز حضوره الإعلامي القوي عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وخلال وقت قياسي أصبح أبو عزرائيل رمزًا لمواجهة التنظيم الإرهابي، جامعًا بين الشعبية والدور العسكري في ظل تراجع واضح لرمزية الجندي العراقي في الملحمة العراقية ضد داعش.
مع انحسار المعارك وبدء مرحلة الإعمار، خفت الأضواء عن أبو عزرائيل، الذي كان قد أدمن الظهور الإعلامي المتواصل، فذهب بتجاه تعويض هذا الغياب من خلال التصريحات العدائية عبر القنوات الإعلامية كمهاجمته للسعودية وسوريا، أو تهديده للعاملين الأتراك في العراق، إلى جانب مواقف أخرى وسلوكيات نددت بها حتى الأطراف التي ينتمي إليها.
او باللجوء الى مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مفرط لتعزيز هوس الظهور، من خلال تقديم بث مباشر يومي من سيارته وهو يمارس تحولات مسرحية في أدواره، فمرة يظهر كمقاتل، وأخرى كناقد للحكومة، ومرة كمصلح اجتماعي، وأخرى كمفتٍ ديني، ثم شخصية وطنية، ثم طائفية، وأحيانًا شابًا عصريًا.
على الرغم من أن هذه التحولات قد تبدو غير منطقية، إلا أنها منطقية تمامًا عند اختيار شخصية رمزية وفقًا لهذه المعايير، مع مرور الوقت، تحول أبو عزرائيل من رمزية مقاومة شعبية حظيت باحترام شعبي واسع لفترة طويلة إلى شخصية جدلية غير متزنة، تفتقد إلى رمزيتها التاريخية وتتحول إلى ظاهرة فيسبوكية تشكل عبئًا ليس فقط على مستقبل السلم المجتمعي، بل أيضًا على بعض القوى التي دعمت وأنشأت هذه الرمزية.
تحولات الرمزية السياسية بين الحلبوسي ومصطفى سند
أدى صعود محمد الحلبوسي، كنموذج سياسي شاب، إلى ظاهرة لافتة ألهبت خيال الشباب العراقي، خاصة في محافظات الجنوب، حيث ان لباقة الحلبوسي، حركاته الديناميكية، ومظاهره التي تجمع بين الثراء السياسي والحنكة والدهاء، وغيرها من المقومات التي امتلكها، جعلت منه مزيجًا مؤثرًا استطاع أن يحدث صدى واسعًا بين الشباب، خاصة مع توظيفه الفعّال للإعلام للترويج لنفسه كقائد يخدم محافظاته ومناطقه.
ذلك ما اثار ذلك مخاوف لدى قادة الإطار التنسيقي من أن يؤدي إلى ارتدادات بين الشباب الشيعي المتذمر من السياسات الحكومية وقيادات الإطار، كما كشف عن عجز حقيقي يعانون منه خاصة بسبب عامل العمر في تقديم خطاب معاصر يوازي النموذج الذي يمثله الحلبوسي، القادر على التأثير في الجماهير، ولا سيما الشباب، وتقليص نقمتهم تجاه هذه القيادات، حيثوجدت هذه القيادات نفسها في حالة عجز عن الحد من الزخم والتأثير الإعلامي والشعبي الذي أحدثه الحلبوسي وذلك بفضل توظيفه لأدوات ريادية في العمل السياسي وهي أدوات تترفع هذه القيادات عن استخدامها.
لمواجهة هذا الواقع، اتجهت قيادات الإطار التنسيقي إلى تصدير رمزية سياسية شبابية جديدة تعكس توجهاتها وتدافع عن سياساتها، مع القدرة على الظهور بمظهر الثائر القريب من الشعب، فوقع الاختيار على النائب مصطفى سند لتولي هذه المهمة، من خلال ظهوره المتكرر في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، متبنيًا خطابًا مزدوجًا؛ فتارةً يُقدّم نفسه كبطل شعبي خارج البرلمان، بينما يقتصر دوره داخله على التقاط صور السيلفي، وتارةً أخرى يظهر كسياسي مستقل ومناهض للفساد مهما كان مصدره، بينما يهاجم بشدة أي انتقاد يوجه إلى الإطار وقياداته.
ولم تقتصر تناقضات السند على الخطاب فقط، بل امتدت لتشمل سلوكه، حيث خرج بشكل مفاجئ عبر مواقع التواصل الاجتماعي أمام أحد الفنادق في روسيا، مرتديًا قفازات ومعطفًا طويلًا وكأنه في رواية بوليسية، زاعمًا ملاحقة المتهم نور زهير فيما يُعرف بقضية “سرقة القرن”، بينما يغضّ الطرف عن الفاسدين الذين يلتقي بهم يوميًا في البرلمان أو في اجتماعات الكتل السياسية.
ومع هذه التناقضات، اتجهت الرمزية السند في اتجاه أعمق من خلال تقديمه كنموذج شبابي معاصر يتناسب مع النسق الإطاري، حيث كانت مخاطبته للشباب واضحة، سواء استقطاب الشباب المتقاربين مع الإطار أو المتذمرين منه، عبر سردية شخصية مؤثرة تركز على نشأته البسيطة وظروفه الصعبة، اذ كان يلمح دائمًا، من خلال زياراته إلى مقاهي وتجمعات الشباب، إلى إمكانية تحقيق النجاح بالاجتهاد، مؤكدًا لهم أنهم يمكن أن يكونوا قدوة وأبطالًا لخدمة المذهب.
مع استثمار متواصل لتأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها بشكل مفرط، واصل السند الترويج لنفسه كسياسي قريب من الشباب عبر طرح منشورات ذات بعد تأجيجي أو عرض نمط حياته البعيد عن الحمايات والتكلف، في سياق تقديم نفسه كنموذج يلهب مشاعرهم ويصنع أملًا زائفًا، إما ليشجعهم على أن يصبحوا سياسيين في المستقبل باعتبار أن الأمر سهل بالنسبة إليه، أو ليؤكد لهم أنه فعلاً يمثل تطلعاتهم، ومن خلال هذه التحركات الهوليودية، سعى لتحقيق هدف أكبر، وهو احتواء هؤلاء الشباب ومواقفهم تجاه قادة الإطار الكبار وسياساتهم.
إن اتجاه الإطار التنسيقي، وهو المتصدر لقيادة الدولة، يكشف عن فشل في تبني ممارسات الدولة أو تجسيد روحها في سياق صناعة الرمزية، الامر الذي دفعه إلى صناعة رموز سياسية كردّة فعل غير موفقة على رمزية سنية لم تكن ناجحة في الأصل، نتيجة ذلك قدمت شخصيات رمزية أسهمت في تفاقم الانقسام الاجتماعي والتشرذم السياسي، بما يتماشى مع فلسفة المصالح الضيقة التي لا تتجاوز البعد الطائفي والحزبي، بدلًا من السعي إلى خلق رموز مؤثرة وفعالة بروح الدولة، تعزز الوحدة الوطنية، وتشجع قيم العدالة والشفافية، وتدعم محاربة الفساد في مؤسسات الدولة، وتسهم في إعادة بناء الثقة بين الشارع العراقي والدولة.
ومع اقترابنا من دورة انتخابية جديدة، يطرح التساؤل حول الرمزية الشعبوية القادمة التي سيحاول الإطار التنسيقي تصديرها قبيل الانتخابات القادمة، خاصة بعد استهلاك الرموز التي قدمها سابقًا. فهل ستكون هذه المرة مجرد ردّة فعل أخرى، أم أنها ستأتي بشكل مختلف، لتكون هذه المرة هي الفعل لا ردّته.