يرى البعض أن الاحتلال يقف وراء تراجع الكثير من الثوابت الاقتصادية والتصرفات المالية التي جاءت مخالفة لقواعد وأصول الاستيراد أو ضوابط وأصول الصرف الحكومي العراقي المتبع كل منهما في مجال اختصاصه ، وللحق فإن للاحتلال دوره الممهد لكل هذا التراجع المالي والاقتصادي العراقي ، بل والتراجع القييمي ، ولكن كل هذا الباطل من التصرفات المالية والاقتصادية يقع على عاتق من جاء مع المحتل أو تناغم مع تعليماته أو استمر متلذذا بتطبيق قرارات بريمر المدمرة ، ابتدأ من الاستيراد المفتوح مرورا بتدمير القطاع العام وخنق القطاع الخاص وصولا إلى بدعة مزاد العملة الذي كان وراء كل هذا الانهيار المادي والخلقي للبلد وهو أيضا كان ولا زال عاملا فعالا لتمويل الإرهاب وفعلا مشجعا لغسيل الأموال المنهوبة من خزائن الدولة ( بصوابين الاستيراد) المشوه الذي جاء بالفاسد من السلع والمخالف للمواصفة العراقية والدولية .
وقد كان حري بالبنك المركزي صاحب الماضي العريق أن يكون عاملا أمينا لإعادة البلد إلى السكة الاقتصادية السليمة وإخراجه تدريجيا من الاقتصاد المشوه للدولة الشمولية إلى حالة الاقتصاد الموجه بتعبير اخر السير به نحو اقتصاد دولة العدالة الاجتماعية ، وذلك عن طريق ضبط ايقاعات هذا الاقتصاد عن طريق التحكم بسعر الفائدة ، والعمل على تصفير العملة منذ وزارة اياد علاوي، حيث تم إصدار العملة الجديدة ، والعودة إلى ضبط ايقاعات الاستيراد وعدم التوسع بفتح المصارف الأهلية ، بل التوسع التدريجي في صلاحيات المصارف الحكومية الثلاثة والعمل قدر الإمكان إلى العودة الى الدورة المستندية للاستيراد ولو بعد فترة ، وعدم الاستماع أو الرضوخ إلى مطالب الأمية الاقتصادية أو عمليات التجارة التلقائية القائمة دون قيود بين المجهز الاجنبي والمستورد العراقي والمعتمدة أساسا على مكاتب التحويل غير المقيدة .
أن للعراق تركة اقتصادية كبيرة وغنية المحتوى في ظل اجهزة الدولة منذ تأسيسها عام 1921تمثلت بالتطور التدريجي للاقتصاد الصناعي والزراعي ابتداءا من معامل اللواء المتقاعد في الجيش التركي فتاح باشا عندما استورد احدث مكائن النسيج الألمانية عام 1926 (معمل فتاح باشا) أو معمل الوصي للانتاج الصوفي ، مرورا باستخراج النفط وتوسع الإنتاج الصناعي لسد حاجات القوات البريطانية المحتلة ، وتنمية الزراعة وان كانت إقطاعية لكنها كانت إلى عهد الستينات والسبعينات تسد الحاجة والفائض للتصدير ، وقد تم إنشاء مصرف الرافدين عام 1941 وبعدها المصرف الزراعي والمصرف الصناعي ، وتم إنشاء الشركات الأهلية للزيوت النباتية وللسكايير والشخاط ومنتجات شركة باتا الجلدية وغيرها من الاف المعامل التي كانت تحت جناح الدولة وحمايتها ، حتى العام 1964 عام التأميم الذي كان حجر الزاوية رغم النقد الموجه إليه ، نعم حجر الزاوية لانه كان وراء التوسع الصناعي الهائل (والسبب أن الرأسمال الاهلي في العراق لم يكن مجزيا لإقامة المشاريع الكبيرة) وهكذا كانت شركات الدولة الصناعية والتجارية والزراعية والسياحية تسد الحاجة الاستهلاكية والعجز يمول عن طريق الاستيراد ، وبموجب اجازات استيراد منظمة ومبوبة حسب الأهمية النسبية اجتماعيا لهذه السلعة أو تلك من قبل وزارة التجارة وبموجب قاعدة بيانات معقولة آنذاك وبموجب التسعيرة حسب العرض والطلب في السوق العالمية ، وهكذا بلغ عدد شركات القطاع العام 300 شركة عامة تقريبا قبل السقوط ، وأغلبها مربحة ، والتي لم تربح كانت تسد نفقات التشغيل والرواتب والأجور . وقد قامت الشركة العامة لتجارة المواد على سبيل المثال عام 1987 ككل الأعوام بتحويل مبلغ 160 مليون دينار من فائض أرباحها السنوية إلى وزارة المالية ، وكان سعر الدينار الواحد آنذاك 3,3 دولار امريكي ، أي ما يقارب 500 مليون دولار ، وكذا ارباح الشركة العامة للسيارات أو الحديد والخشب الخ.
أردنا بهذه المقدمة أن نقول إن تلاعب الدولة المستمر بسعر دينارها (وهو قيمة سيادية) وعلى هذا النحو المهين إنما ينم عن جهالة في درس النقود والبنوك الذي يتعلمه كل مبتدئ في علم الاقتصاد ويومئ ايضا عن قلة في الوطنية ، وما مزاد العملة إلا طريق أدى بنا إلى مهاو نعرف لها حدودا الان ، ولكن قد لا نعرف لها أية حدود في المستقبل ، والأصلح اليوم أن يعود البنك المركزي إلى سابق عهده بنك البنوك بنك المقاصة ، أهدافه ضبط ايقاعات الاقتصاد والتحكم بسعر الفائدة والدفاع أو الحفاظ على القيمة الحقيقية للنقد الوطني المتداول ، والعمل قدر الإمكان على تصفير العملة وجعل سعر الدينار الواحد دولارا واحدا ، ومغادرة مزاد العملة والعودة تدريجيا الى عملية الاستيراد المتبعة قبل العام 2003 ، واعتماد مصارف مراسلة رصينة وفق آليات سويفت ، والتفكير جديا وبحسابات الكلفة الاجتماعية بمصير القطاع العام وشركاته المعطلة ، والتنسيق مع وزارة التجارة لوضع أولويات الاستيراد وفقا للأهمية النسبية لكل سلعة وإيقاف استيراد السيارات لفترة ، وإيقاف استيراد السلع غير الضرورية والترفيهية أو سلع البطرانين مثل المفرقعات او االعاب وسلع يمكن بسهولة وبسرعة إنتاجها محليا .
أن العراق دولة منتجة وشعبها رغم ما يعرف عن بعض شرائحه من كسل انتاجي ، الا أن ما مر علينا جعلنا نشعر بالتقصير المتعمد تجاه النفس ومعاقبها بطريقة نرجسية ، ولنعد ونقول كما قال جبران خليل جبران ، ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ، وتلبس مما لاتحيك ، وتشرب مما لا تعصر ، واعود لاقول كفوا عن إهانة الدينار وتوقفوا عن لعبة الدولار ومزاده وأعيدوا للعراق هيبته ، وتوقفوا عن كل هذه الأحلام والحليم تكفيه إشارة الابهام ……