لم يكن موضوع خروج أو هروب أو لجوء الكفاءات الوطنية حديثا أو وليد الأحداث التي تلت عام 2003 فهو قديم ومعروف للجميع ، ورغم إننا لم نجد إحصاءات رسمية توثق عدد الكفاءات المهاجرة منذ 1958 ولحد اليوم ، إلا إن الهجرة موجودة سواء لمن كانوا يمارسون المهن كالأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات والأدباء والفنانين وأصحاب الحرف النادرة أو أثناء سفرهم أو ابتعاثهم لإكمال الدراسات الأولية أو العليا أو الإيفاد ولم يعودوا للوطن ، وقد أوجدت الأنظمة السابقة شروطا جزائية وطلبت ضمانات بما يكفل تقليل الهجرة إلى أدنى مستوياتها وعودة المغادرين عند انتهاء الأمد الزمني ، ورغم التشدد لحد التعسف احيانا فان الهجرة لم تنقطع يوما حتى عندما وزعت في المنافذ الحدودية قوائم بأسماء تتضمن الممنوعين من السفر للخارج أو اشتراط الخدمة لضعف مدة الدراسة لبعض المهن والأعمال ، وتعود الأسباب الرئيسية للهجرة إلى الفرق الشاسع بين بيئة العمل والحياة في الداخل ومثيلاتها في الخارج من حيث المكانة والدخل والفرص المتاحة والشعور بالانجاز والحريات والرفاهية وطبيعة الحياة الاجتماعية وفرص التقدم وغيرها من العوامل الكثيرة التي يعول عليها أصحاب الاختصاصات كواحدة من عوامل السعادة والشعور بالاستقلالية والأمان والنجاح ، والشيء الجدير بالذكر إن اغلب المهاجرين للخارج تغريهم الفرص المتاحة أو المعروضة عليهم بمعنى إنهم كانوا يؤمنون فرص العمل والاستقرار أولا ثم يبحثون عن الطرق الآمنة للخروج أو البقاء دون عودة خلافا للشروط ، لذلك فان خروجهم لا يعد خسارة نهائية لأنها قابلة للعدول والعودة من الخارج في مرحلة أخرى وهذه العودة تكون أكثر فائدة عندما تختلط بالخبرة التي اكتسبوها بالممارسة أو الحصول على مزيد من الشهادات .
ولعل السنوات التي تلت 2003 تعد من أكثر السنوات التي حصلت فيها الهجرة للعراقيين وعلى طريقة الفوضى الخلاقة فخلالها خسر العراق أفضل الكفاءات من العلماء والباحثين والتدريسيين والمخترعين والمبدعين ، فبعد الاغتيالات والتهديدات والخطف والتسليب وغيرها من أعمال العنف وجدت الكفاءات طريقا سالكا للهجرة الفردية والجماعية لان الحدود مفتوحة لكل من يحمل جواز السفر دون حاجة للتزوير ، وهي هجرة عشوائية بالفعل لان اغلبها غير مخططة وهدفها الهجرة من اجل الحصول على الأمان والحياة وليس ممارسة العمل والاختصاص ، وبعض المهاجرين توجهوا إلى بلدان تعاني البطالة والفقر لذا فقد منعوا من العمل كشرط لمنحهم الإقامة رغم ما يحملونه من مؤهلات فقبول الهجرة أساسه ما سينفقونه وليس ما سيحصلوا عليه ، والعدد القليل استطاع الحصول على فرص اقل من المناسبة لممارسة الاختصاص بشروط لا تخلو من الإذعان لأنها بأقل من الاستحقاق الفعلي أو على سبيل الاضطرار ، وقد وصل الأمر لفرض شروط قاسية ومنها العمل لساعات طويلة والإقامة خارج المدن الرئيسة لسنوات أو ترك الاختصاص والعمل بما يوفر لقمة العيش ، والأكثر من ذلك ألما هو تهافت العديد من الشباب للسفر إلى دول الجوار لترويج معاملة الهجرة في الدول الأوربية والبقاء فيها على سبيل انتظار الموافقات والقبول الذي ربما يطول لسنتين أو أكثر أن لم ينتهي بالرفض ، وبعضهم قضي نحبه أثناء الهجرة غير الشرعية وأكثر الذين نجوا ووصلوا إلى دول المهجر يقضون سنوات لمعادلة شهاداتهم وبعضهم يعملون بوظائف متدنية لأجل العيش أو إنهم يعتمدون على المنح والإعانات للعيش ، والبعض القليل منهم اغتنم الفرص لممارسة الاختصاص وهناك من ذهب وعاد ، وتوجد قصص وإحداث تدمي القلوب والنفوس عند عرض أحداثها فاغلبها تصلح كقصص أفلام هندية في البوليوود.
وللأسباب المذكورة في أعلاه فقد اعتبر البعض إن ما أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أن بلاده ستمنح لاجئين سوريين وعراقيين الجنسية التركية بأنها فرصة ذهبية رغم انه لم يحدد عدد الأشخاص الذين يشملهم هذا الإجراء ، وقال في خطاب متلفز إن وزارة الداخلية تقوم حاليا بالعمل لمنح بعض السوريين والعراقيين الجنسية التركية بعد القيام بالتحقيقات اللازمة ، وأضاف هناك أشخاص من أصحاب الكفاءات العالية من مهندسين ومحامين وأطباء يمكن الاستفادة منهم بدلا من تركهم يعملون بشكل غير قانوني لذا سنمنحهم الفرصة للعمل كمواطنين مع أبناء هذه الأمة ، وفي الوقت الذي لم يحدد الرئيس التركي متى سيتم اتخاذ هذه ( المبادرة ) فقد قال إن وزارة الداخلية على استعداد لاتخاذ هذه الخطوة في أي وقت ، وسبب اعتبار ما ذكره اوردغان بارقة أمل للراغبين بالهجرة والعمل خارج العراق إنها تنطوي على ضمانات بان تكون للهجرة هدف وهو العمل واكتساب الجنسية مما يوفر الأمان والتعامل على غرار ما يتمتع به المواطن التركي من حيث التمتع بالحقوق والواجبات دون مذلة وانتظار بما يضمن ممارسة الاختصاص ، وسواء كانت تركيا هي من تمنح هكذا عروض أو غيرها فإنها تعني من ضمن ما تعنيه تبديد ثرواتنا الوطنية من الكفاءات التي انفق عليها البلد ملايين الدولارات لإعدادها وعلى طريقة المثل الشعبي ( يتعب أبو جزمة يأكل أبو كلاش ) ، ويمكن التنبؤ مسبقا بالطريقة التي سيتم بها اختيار الكفاءات وعلى أية حسابات بما يعوض الأعداد الكبيرة التي تم تسريحها بعد محاولة الانقلاب التي حصلت في الربع الأخير من العام الماضي ، والتي تسببت بتسريح أعدادا كبيرة من العاملين في مؤسسات الدولة وخارجها بافتراض التآمر أو ضعف الانتماء أو (الإقصاء ) .
ومن يعتبر هجرة الكفاءات الوطنية خسارة ومن الصعب تعويضها أو إنها تفريط صريح بالموارد البشرية التي هي من أهم الموارد لأي بلد نامي أو متطور ، يواجه بانتقادات لاذعة بصيغة تساؤلات تتضمن ماذا قدمتم للكفاءات لكي تخدم البلد فبعضهم في عداد العاطلين والبعض الآخر لا تتاح لهم الفرص لممارسة الاختصاص أو إنهم يعملون تحت الضغوط وبأجور غير عادلة ، ولهم نقول إننا لا نقف حائطا لتعطيل مفردات إنسانية احتواها الدستور الحالي للبلاد وتتعلق بحرية العمل والتنقل والسفر ، ولكن واجب المواطنة يفرض قدرا من الالتزامات يتوجب الاضطلاع بتنفيذها وتقديم بعض التضحيات من باب نكران الذات ، ففي الوقت الذي نقدر فيه ظرف البلد غير المستقر تماما فانه ليس من الوطنية والمهنية أن يتم تعيين المئات من خريجي المجموعة الطبية ( مثلا ) سنويا وبعد سنتين أو ثلاث يتبخر منهم الثلث أو النصف ليعملوا في بلدان أجنبية ولا يترتب على ذلك أي مردود علمي أو مادي للعراق ، والبلدان التي توظف الشاب / الشابة العراقي في ابخس الأماكن تعد مستفيدة لأنها تأخذ كفاءة جاهزة أنفقت في سبيلها كمية مهمة من ثروات العراق منذ الحمل والولادة ولحين الهجرة وما تخللته حياتهم في التمتع بفرص الدراسة ، وتعطيهم تلك الدول مرتبات لقاء سيقدمونه من مجهودات سيضطرون لإنفاقها للمعيشة هناك ، في حين إن بلدنا يستورد أطباء التخدير والممرضات لأنها وظائف لا تحظى برغبة الشباب وهناك أمثلة كثيرة لغير مهنة الطب ، وهذه الأمور تستدعي تنظيم الهجرة وجعلها في إطارها الصحيح من خلال حزمة تشريعات تضمن فرص العمل ويحقق المردود الاقتصادي لبلدنا ، وهي عملية يمكن التنسيق بشأنها بين الوزارات المعنية كالعمل والخارجية والصحة والتعليم والداخلية وغيرها ، فالغاية هي إن تكون الكفاءات الوطنية بمكانها الصحيح وتتم المحافظة على تنميتها وحقوقها دون أن نبخس حق العراقيين والعراق .