22 ديسمبر، 2024 10:48 م

كزار حنتوش بعيون زوجة وشاعرة

كزار حنتوش بعيون زوجة وشاعرة

يمكن النظر للكتابة عن الجوانب الغير منظورة من حياة الآخرين على انها سيرة مكتوبة بقلم الغير ، فهي لاتعد شهادة فحسب انما ابحار في عالم الشخصية المكتوب عنها والتي قد لايقترب منها صاحب السيرة نفسه ، ومثلما أضاءت الصحفية ” عبله الرويني ” جانبا من حياتها مع زوجها الشاعر ” أمل دنقل “في كتابها الممتع ( الجنوبي ) وكذلك كتابات الشاعــرة  “سنية صالح ” عن رفيق دربها وزوجها الشاعر ( محمد الماغوط ) و ما أنجزته ” سيمون دي بوفوار ” في كتابها ( وداعا سارتر ) عن زوجها الفيلسوف الوجودي”جان بول سارتر ” يأتي كتاب الشاعرة ” رسمية محيبس ” ( كزار حنتوش .. الشعر مقابل الحب ) الصادر عن دار ميزوبوتاميا بغداد 2013 ليرصد محطات مهمه في حياة وشخصية الشاعر ” كزار حنتوش ” الذي شكلّ مع زوجته الكاتبة ” رسمية ” ثنائيا ابداعيا يشار اليه بالاعجاب .
تصف الكاتبة بداياتها مع زوجها وتؤام تجربتها الحياتية والابداعية  الشاعر ” كزار حنتوش ” بالمغامرة المحفوفة بالقلق والتوجس فقد وجدت في دخولها عالم هذا الشاعر ( كان بالنسبة لي كالقارة المجهولة لاأدري كيف اكتشفها )  وعندما تقدمت بخطواتها على ارض هذه القارة اكتشفت انه (شخصا غامضا عصبي المزاج ، يعيش لحظته فقط ، لايحسب حساب الغير ، همه الشعر وأصدقاء ينتقيهم عشوائيا ) ، والبعض من هذا االتوصيف للشخصية  معروفا للعديد من المقربين لها ، ذلك ان ” كزار ” كان كتابا مفتوحا ، ويحفظ له الاصدقاء بمواقف تؤكد ماذهبت اليه الكاتبة ، وبأمانة تكشف الكاتبة ايضا انها في البدء عانت كثيرا من غرابة أطوار الشــاعرالذي  (يثور احيانا ويدمر كل شيء ثم يعود ويعتذر وكأن شيء لم يكن ) ولكنها وبعد فترة من المعايشة تكتشف ان لاأحدا بعفويتة وبياضه وبرائته ابدا ، واللافت ايضا في غرابة اطوار الشاعران رؤيا الموت برزت حتى في اوج حالات نشوته ــ وهو ماذهبنا اليه في مقال سابق تناولنا فيه الموت في شعر كزار حنتوش ــ فهي تذكر انه ما ان انتهت مراسم عقد القرآن بينهما في المحكمة والتي يفترض ان تكون واحدة من اسعد اللحظات في حياة الشاعر الاّ انه ناولها ورقة فيها أبيات شعرية خيم شبح الموت على مفرداتها :
     ( كوني قطبا للفلك الدوار
         العمر قصير
         وسيفرد يوما ليس بعيد
         جنحيه ويطير )
ولم تخف ايضا ان “كزار” كان ميالا للوحدة فهو ( ينقطع أياما طويلة لايراه فيها أحد ) وكان يسميها فترة نقاهة حيث يتفرغ فيها للتأمل والقراءة والكتابة والمراجعة وكنا ايامها نشهد انقطاعاته عن جلساتنا ولقاءاتنا ولكنه بعد فترة يفاجئنا بظهوره مجددا وقد استعاد بعضا من حيويته ونشاطه الابداعي . 
وعن شاعرية “كزار” تقول انه كان عفويا في كتاباته فهو ( لايزوّق نفسه بل يطرحها على الورق كما هي ) وهذا ماجعل طريق أشعاره سهلا الى القلوب ، ولايختلف اثنان على شاعريته الفذة التي لم تسلم من حسد الحاسدين ومن محاولات البعض النيل منها لكنه كان يرى في تلك المحاولات البائسة ليست اكثر من (ضفادع في برك ) .
وتسلط الضوء على ثقافة الشاعر فتذكر انه ( قاريء نهم لكل ماتقع عليه عيناه سوى الشعر وخاصة الشعر الحديث انه لايقرأ الا لحاجة ملحة ) وقد لمسنا تنوع ثقافته وانعكاسها على عموم تجربته الابداعية  .
وتروي عن شخصية كزار الانسان  عددا من المواقف التي تبين فيها بساطتة وعاطفتة الطافحة بالنبل ومنها علاقته بالجيران وكذلك يوم انهمرت دموعه ( وهو يرى شابا في مقتبل العمر يبيع أكياس الملح في عربة  كان الشاب ينادي دون ان يخرج اليه احد ويشتري منه هنا سالت دموع الشاعر وناداه لماذا تبيع الملح :
  ــ عمي أساعد أمي
  ــ والمدرسة عمو ؟
  ــ لا عمي اداوم هذه كتبي
عندما انصرف الولد قال : آخ كلبي يوجعني )
و تذكر موقفه من التغيير الذي حصل في نيسان 2003 فقد عاش قلقا وخوفا على مدينته من الأذى وكان يتألم وهو يرى التخريب والفرهود ينال مؤسساتها ومرافقها العامة.
لقد رافقت المرأة كزار منذ وقت مبكر من حياته الصاخبة فكانت الأم أول محطات حبه و ظل يشعر بتأنيب ضمير تجاهها لما تسبب لها من متاعب والآم حيث يعترف لها ( ان ابنك متسخ القلب ) ثم يأتي دور بنات اخيه الاصغر اللاتي ملئن حياته مرحا وبهجة ثم الحبيبات وآخرها الزوجة ” رسمية ” التي يعترف بفضلها الكبيرعلى حياته ( لولا بغداد وفيروز ورسمية  .. لأقترنت ضفدعة بي .. ولألقى العنز عليّ الفضلات .. ولكنت مجرد عربة .. دون قيود أو عجلات ) . بهذه الانسانية العالية التي كانت عليه شخصية الشاعرتمكن من الاستحواذ على قلوب الكثير فـ ( احبائه كثيرون يخرجهم من اعماقه كلما سنحت الفرصة ) ، كان يهدي للأصدقاء القصائد لقاء محبتهم فيقول في ذلك انه .( الشعر مقابل الحب ) .
لقد تعرض كزار للعديد من المكائد والأفخاخ التي نصبت في طريقه من قبل البعض وكان دافع ذلك هو الحسد من ثراء تجربته الابداعية فتذكر الكاتبة تجاهل تكريمه من قبل القائمين على ادارة الجريدة التي كان يعمل فيها نهاية التسعينيات حيث دفعه ذلك الفخ المدبر الى الوقوف والمجاهرة باهانتهم امام أرفع المسؤولين الحاضرين ذلك الحفل ، كنت شخصيا حاضرا ذلك الموقف وكانت الى جانبي المخرجة السينمائية ( خيرية المنصور ) التي شاركتني قلقي على المصير الذي سيواجهه كزار جراء تهجمه والفاظه الجارحة التي امطر بها وجوه الذين نصبوا له ذلك الفخ ، ولكن الأمر مرّ بسلام سترا للاهانة .
وعرف كزار بمشاكساته البريئة التي لم يسلم منها حتى القريبين منه وأوكد انها بريئة ذلك انه لم يهدف من وراءها الاساءة او النيل من شخصية الآخر بل كان يجد فيها كسرا لطوق الرتابة التي كانت تتسم بها أيامه ، ويوم صارحته عن أسباب لجوئه الى هذه الخصومات التي هو في غنى عنها فقد برر ذلك ان الحياة تصبح ثقيلة عندما تسير على ذات الخطى فلا بد من تغيير ولو بافتعال الخصومات، وقد قادته واحدة من خصوماته مع احد الشعراء الشعبيين الذي نعته كزار بـ  (المداح ) الى دائرة الأمن لكنه بفطنته وبديهيته التي واجه بها مدير الأمن تمكن من التخلص من تبعات ذلك الموقف الخطير ، كان طيبا واستفزازه للبعض لم يكن بدافع الحقد او الانتقام بل كانت له فلسفة خاصة يبرربها سلوكه هذا، وتصف الشاعرة ذلك بانه كانت لديه ( قدرة عجيبة في تحويل العدو الى صديق بغمضة عين ) .
لقد ضم الكتاب عددا من القصائد التي كتبها بحق البعض من اصدقائه الشعراء الذين احاطهم بمحبة خاصة ، حميد سعيد ، يوسف الصائغ ، كاظم الحجاج وكذلك عددا من رسائله الى الاصدقاء كما ضم مقتطفات وشهادات قيلت في رحيله  والتي افصحت عن جسامة الخسارة التي تعرضت لها الثقافة العراقية برحيله الذي وصفه الشاعر الحجاج بـ ( الكنز الفوضوي الذي هو كزار ) .
لقد كانت الشاعرة والكاتبة ” رسمية محيبس” في كتابها ( كزار حنتوش .. الشعر مقابل الحب) أمينة في اضاءاتها لعالم وشخصية شاعرها المتفرد بالروح والشعر، فالكتاب جاء سيرة بقلم زوجة وشاعرة امتزج فيها الوفاء بالنبل كما تقرأ بين سطورها  الشعور المؤلم بالفقدان وفداحة العيش بغياب من تحب وتشعر بحرارة ذلك في همس الشاعرة  ( آه كم يبدو هذا العالم موحش دونك ) .