لم اقابل شخصا من روسيا لا يعرف حكايات كريلوف واساطيره , او لا يحبها , وكان هناك دائما من يستشهد بمقاطع من تلك الحكايات والاساطير اثناء مسيرة الحياة بحلّوها ومرّها, وكنت اعتقد , ان هذا التعاطف الشامل والتناغم مع تلك الحكايات جاء نتيجة لجمالياتها وسلاستها وعمقها وحكمتها , ولكني فهمت الان , ان هذه الظاهرة الفكرية و الحيوية ليست فقط نتيجة لتلك الاسباب, وانها ليست عفوية ليس الا , وانما جاءت ايضا نتيجة ( زراعة!) هذا الحب بين الناس والاعتناء به , اذ تبين , ان تلاميذ المدارس يدرسون هذه الحكايات والاساطير منذ الصف الثالث الابتدائي فصاعدا ( انطلاقا من المبدأ التربوي العتيق والخالد – النقش في الحجر.. منذ الصغر!!! ), وتبين لي ابضا , ان هذه العملية التربوية الفريدة ابتدأت في روسيا قبل( 150) سنة ولم تتوقف لحد الان , بغض النظر عن كل الاحداث الهائلة التي حدثت في روسيا خلال هذه الفترة الطويلة من مسيرتها , والتي تحولت فيها الدولة الروسية من الامبراطورية الروسية التي يحكمها القيصر بشكل مطلق الى اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية بقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 والى روسيا الاتحادية في الوقت الحاضر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 .
لقد كتب كريلوف أكثر من (200) حكاية واسطورة , ونشرها اثناء حياته بتسع طبعات , وهو رقم مدهش بالنسبة لذاك الزمان ( القرن التاسع عشر ) ولزماننا ايضا ( ونحن في بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين) , واختارت اللجنة التربوية لاعداد المناهج الدراسية في المدارس الروسية مجموعة صغيرة من تلك الحكايات , وأدخلتها ووزعتّها ضمن النصوص والكتب المنهجية للغة الروسية وآدابها , وأعطت الى المدرسين الصلاحية المطلقة لاختيار اربع حكايات منها فقط ضمن المناهج المقررة لتلك المراحل. نحاول في هذه المقالة التحدّث عن حكايتين فقط من تلك الحكايات التي تم اختيارها من قبل اللجنة التربوية لاعداد تلك المناهج .
الحكاية الاولى , التي تتصدر هذه القائمة هي (الغراب والثعلب) , للكاتب الفرنسي لافونتين , والتي ترجمها كريلوف عن الفرنسية بتصرف ابداعي كبير جدا وصاغها بشعر روسي رقيق وسلسل وعذب جدا, وهكذا (التصقت!) هذه الحكاية باسم كريلوف في الوعي الاجتماعي الروسي لدرجة , ان الانسان الروسي البسيط ( ولحد الان !) لا يمكن ان يتقبّل- باي حال من الاحوال- ان كريلوف ليس مؤلفها وانما مترجمها ليس الا , وقد علّق أحد الطلبة العراقيين المرحين مرة حول ذلك الموقف قائلا ( انها مسجّلة باسم كريلوف في الطابو الروسي !!!) . لقد كتبت عن اهمية تلك الحكاية في مقالتي بعنوان ( كريلوف ابن المقفع الروسي ), والتي يمكن الرجوع اليها طبعا , وتحدّثت في تلك المقالة حتى حول الترجمة العربية عن الفرنسية كما جاءت عند لافونتين( والتي قام بها علاء شطنان التميمي, وهو أحد خريجي قسم اللغة الفرنسية في كليّة اللغات الحبيبة) . عندما يقرأ التلميذ الروسي هذه الحكاية الجميلة في منهجه المدرسي بلغة كريلوف الرقراقة يتفهّم رأسا ( بشكل غير مباشر) ماذا يعني المديح الزائف للثعلب وهو ينظر الى قطعة الجبن عند الغراب , اي ان الفكرة التربوية العميقة تصل الى ذهنه اليافع بشكل مقنع وسلس , وهكذا تبقى في عقله وقلبه ( كالنقش في الحجر ) .
الحكاية الثانية هي ( الذئب والحمل ) , وهذه الحكاية ايضا للكاتب الفرنسي لافونتين , والتي ترجمها كريلوف بنفس ذلك الاسلوب الروسي الخالص ( ان صحّ التعبير) , والتي اصبحت كذلك – بالنسبة للروس – ترتبط باسمه , مثل حكاية (الغراب والثعلب) , التي أشرنا اليها أعلاه . تقدّم حكاية الذئب والحمل ايضا للتلميذ الروسي درسا تربويا رائعا بشكل غير مباشر , اذ يرى هذا التلميذ اليافع كيف يتصرّف الذئب من موقع القوة, من اجل ان يفترس الحمل الصغير المسكين , ويحفظ التلميذ الجملة الاولى التي ترد في بداية هذه الحكاية , الجملة الحكيمة , التي تؤكّد , ان الضعيف مذنب دائما امام القويّ .
لقد اختارت لجنة المناهج حوالي عشرين حكاية واسطورة لكريلوف , منها مثلا , الكذاب / برميلان / الفضولي / الحمار والبلبل/ الفيل والكلب الصغير / وغيرها , وكل هذه النتاجات المتنوعة الجميلة تحمل في سطورها حكمة تربوية عميقة ,و تؤكّد على القيم الاخلاقية في حياة الانسان في اطار رشيق ومرح وشفاف …
حكايات كريلوف واساطيره (التي ترجمها او استعارها من الثقافات الاخرى وصاغها بلغته الجميلة) تساهم بشكل واضح في تربية الاجيال الروسية الصاعدة , فمتى تساهم حكايات ابن المقفع واساطيره التي ترجمها لنا في تربية اجيالنا الصاعدة ؟