يسمونه الجد كريلوف في تاريخ الادب الروسي ومسيرته ( حتى بوشكين أسماه هكذا رغم ان بوشكين مات قبله ) , ويعرفه الصغير والكبير في روسيا , ولم أجد شخصا هناك لا يعرفه – و منذ طفولته – و لا يعشقه ولا يستشهد باقواله وامثاله وحكمه وقصائده ويتحدٌث عن اساطيره وحكاياته وقصصه الخرافية الجميلة ذات المعاني الواقعية والحياتية البسيطة والعميقة والحكيمة في آن واحد , ويستشهد بمقاطع طويلة منها عن ظهر قلب رغم ان ابطالها بالاساس هم الحيوانات المختلفة من اسود ونمور وذئاب وثعالب وكلاب واسماك وطيور او حتى الاشياء الاعتيادية التي تحيط بنا مثل الاشجار والاحجار والمياه …الخ وهناك بالطبع يكمن الانسان نفسه – بشكل مباشر او غير مباشر – في كل تلك الحكايات الخرافية والاساطير.
لم تستقر لحد الان التسمية العربية الدقيقة لنتاجات كريلوف الادبية الابداعية هذه (توجد كلمة روسيٌة واحدة محددة لها ومعناها الحرفي القاموسي هو – اسطورة // امثولة ) رغم ان الكثير من المترجمين العرب ترجموها ( او حاولوا ان يترجموها ولكن … ! ) الى العربية , فهناك من يطلق عليها تسمية حكايات رمزية , وهناك من يسميها خرافات , وثالث يقول انها اساطير , ورابع يشير الى انها قصص خرافية , وتطلق اللهجة العراقية عليها كلمة – ( سالوفه وجمعها سوالف ) , وكل هذه الاجتهادات واردة وصائبة ومقبولة – في الواقع – بلغتنا العربية , لغة كليلة ودمنه ومترجمها العظيم ابن المقفع , اذ ان العرب نفسهم أطلقوا عليها كل تلك التسميات المذكورة اعلاه , ولهذا السبب اطلقنا على كريلوف في عنوان مقالتنا هذه اسم – ابن المقفع الروسي , رغم ان الباحثين الروس يسمونه باسم الكاتب الفرنسي لافونتين , اي لافونتين الروسي , او لافونتين روسيا , وهم بالطبع على حق, وذلك لان كريلوف قد ابتدأ مسيرته الابداعية في هذا المجال بالذات عن طريق ترجمة العديد من الحكايات والاساطير لهذا الكاتب الفرنسي الشهير الى اللغة الروسية ( تشير المصادر المختلفة الى انها حوالي الاربعين ), ولكن كريلوف ترجمها بتصرف كبير جدا وصياغة ابداعية وذاتية روسيٌة اصيلة , اي انه قام بترجمة حرة لم تلتزم بتاتا بحرفية النص الاجنبي (الفرنسي ) او قواعد تركيبه وترتيبه , وانما التزمت التزاما ابداعيا و دقيقا وصارما بالمضمون فقط , اما الشكل الفني فقد التزم كريلوف بموسيقية الشعر الروسي وجماليته واصول صياغته اولا, وبناء الجملة الروسية وترتيبها واحكامها وقواعدها بالنسبة للنثر ثانيا , مع اضافات وتفصيلات عديدة ومختلفة وذات نكهة روسيٌة بحتة ابتكرها كريلوف بشكل مبدع بنفسه واعتبرها ضرورية في مجمل البناء الفني واللغوي لتلك النصوص , لدرجة اصبحت ( تلك الترجمات ) جزءا لا يتجزأ من الادب الروسي البحت شعرا ونثرا , ولم يعد القارئ او المتلقي الروسي يحس ان هذه النصوص مترجمة عندما يطالعها , وقد كتب كريلوف نفسه حكايات واساطير اخرى غير تلك التي ترجمها و بنفس الروحية والخصائص, ولا يستطيع القارئ الان ان يميز بين تلك التي ترجمها او تلك التي كتبها كريلوف نفسه , وهو في الواقع ما قام به ابن المقفع بالنسبة لكتابه العظيم كليلة ودمنة لدرجة باننا لحد الان نربط هذا الكتاب باسمه وكأنه مؤلف الكتاب ليس الا ولا نتحدث عنه باعتباره مترجما للكتاب , وهذا ما حدث واقعيا لكريلوف بالضبط ايضا , ولهذا فاننا نرى ان تسميته ب (ابن المقفع الروسي ) بالنسبة لنا نحن العرب هي الاقرب روحيا لنا و الأكثر دقة من تسميته ب ( لافونتين روسيا ) رغم موقف الباحثين الروس الذي ذكرناه اعلاه , ولكن يبقى هذا الامر نسبيا بالطبع , بل و حتى ثانويا ليس الا , ولايمكن له ان يؤثٌر بتاتا لا من قريب ولا من بعيد على موقع كريلوف في الادب الروسي وقيمته الفنية الكبيرة واهميته المتميزة في مسيرة تاريخ الادب في روسيا وحب القراء الروس له وتقبلهم لنتاجاته الابداعية تلك وتعلقهم واعتزازهم وتمتعهم بها واستمرارهم لحد اليوم بقراءة نصوصه الادبية الجميلة الشفافة والساحرة .
لا نظن ان هناك ضرورة لعرض سيرة حياة ابن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ايفان أندرييفتش كريلوف ( 1769-1844 ) في هذه السطور هنا بشكل تفصيلي وشامل , خصوصا وان هذه السيرة الحياتية موجودة بشكل تفصيلي في الكثير من المصادر العربية المتوفرة حول الادب الروسي وتاريخه واعلامه , وكذلك لا نرى ضرورة في التوقف اوالحديث او التأكيد على مراحل مسيرته الادبية والابداعية باعتباره صحفيا او كاتبا مسرحيا , لأن الكتابة عن مساهماته الصحفية الكبيرة في الحياة الفكرية الروسية ( وخصوصا في مجال الصحافة الروسية الساخرة والذي يعد كريلوف واحدا من مؤسسيها الاوائل في روسيا ورائدا كبيرا من روادها) تتطلب مقالة خاصة , اما مسرحياته واهميتها وقيمتها الفنية في بداية مسيرة المسرح الروسي فانها تقتضي ايضا دراسة معمقة بلا شك لما لها من اهمية في تاريخ الادب المسرحي الروسي بشكل خاص والمسرح الروسي بشكل عام , ولكننا نريد في مقالتنا هذه ( التزاما بعنوانها ) التحدث عن تلك العوالم الخيالية المدهشة الجمال والاسطورية التي خلقها في حكاياته واساطيره الشعرية والنثرية , والتي لا زالت لحد اليوم تنبض بالحياة في المجتمع الروسي وتساهم في تفصيلات مسيرته اليومية والتي قال الكاتب الروسي العظيم غوغول عنها مرٌة انها تجسٌد ( حكمة الشعب كله ) , وهي ظاهرة نادرة جدا في تاريخ الادب الروسي بشكل خاص والادب العالمي بشكل عام.
كتب كريلوف اكثر من 200 حكاية خرافية واسطورة شعرا ونثرا , وقد ابتدأ بذلك منذ عام 1806 عندما كان مشهورا جدا في الاوساط الادبية والصحفية الروسية في حينه , ثم أخذ باصدارها ضمن مجاميع , وقد بلغت 9 مجاميع بين أعوام 1809 و1843 وبعدة طبعات واسعة الانتشار ,و كان ينتظرها القراء الروس آنذاك بكل لهفة , ويمكن القول انه تفرٌغ ابداعيا لكتابة هذا النوع الادبي المتميز منذ ذلك التاريخ والى نهاية حياته , والذي لم يسبقه أحد فية بروسيا آنذاك , وهكذا أصبح كريلوف رائدا في هذا المجال ومؤسسا له , وقد قال له أحد اصدقائه من النقاد عندما اطلع على محاولاته الاولى في هذا المجال , عندما ترجم لاول مرة بعض حكايات لافونتين , انه – ( مخلوق بالذات لهذا الشكل من الابداع ) وقد كان هذا الناقد على حق فعلا , اذ اثبتت الايام والسنوات ان كريلوف لا يزال لحد الآن يقف في طليعة الادباء الروس في هذا المجال رغم ظهور عشرات الكتٌاب و الادباء الروس بعده , و الذين حاولوا تقليده اوتكرار تجربته او ان يحذون حذوه.
نحاول – في ختام هذه الملاحظات الوجيزة عن كريلوف – ان نرسم نموذجا تطبيقيا محددا لما ذكرناه اعلاه , وذلك يقتضي ان نتوقف بتفصيل عند احدى نتاجاته المترجمة وهي حكاية خرافية معروفة جدا للقراء العرب بعنوان الغراب والثعلب بقلم لافونتين, والتي ترجمها كريلوف عن اللغة الفرنسية . ان هذه الحكاية معروفة ومشهورة جدا عند معظم الشعوب تقريبا و منذ القدم , وتوجد اشارة لها بشكل او بآخر حتى في حكايات الف ليلة وليلة وفي كليلة ودمنه , ولكنها تمتلك صياغتها الخاصة بها لدى تلك الشعوب . لقد كتبها لافونتين شعرا في القرن السابع عشر ( ولد في 1621 وتوفي في 1695 ) , وترجمها المترجمون عنه شعرا ايضا , وهو ما قام به كريلوف ايضا , ولكننا عندما نتحدث مع اي مواطن روسي الان عن هذه الحكاية فانه يقول رأسا ان كريلوف هو الذي كتبها لنا , ولا يقول انه ترجمها عن الفرنسية , ثم يبدأ بقراءة المقطع الاول منها كما عند كريلوف- (وهب الرب للغراب قطعة جبن صغيرة ….) , ولا يهتم بتاتا ان لافونتين لم يبدأ هذه الحكاية الخرافية الممتعة والمعروفة للجميع بهذا الشكل, وانما جاءت ( حسب ترجمة المترجم القدير عن الفرنسية الاستاذ علاء شطنان التميمي في موقع النور والمرفق مع نص لافونتين بالفرنسية ) هكذا-
حطٌ الغراب على شجرة بهية
يحمل في منقاره جبنة شهية