فور إعلان أسماء التشكيلة الحكومية التي يترأسها الدكتور حيدر العبادي فقد المواطن العراقي آخر آماله بالتغيير. الاسماء ذاتها تكررت. فرسان اللعبة الطائفية إمتطوا صهوة السلطة التنفيذية من رئاسة الجمهورية الى أبسط الحقائب الوزارية. يبدو المشهد وكأنه كرنفال قراصنة يقتسمون غنائم سطوهم على ساحل آمن. الطبيب الذي أقضّ مضجع سيبويه لكثرة ما نحت من مصطلحات في اللغة العربية أصبح وزيرا للخارجية. والصيدلاني باع آخر ما تبقى من قوارير مختبره ليصبح وزيرا للتربية. وعالم الذرة الذي كان له فضل السبق في تدمير ما تبقى من وزارتي النفط والكهرباء أصبح وزيرا للتعليم العالي. وأستاذ العلوم السياسية أصبح وزيرا للتخطيط. والمهندس المدني أصبح وزيرا للنقل بعد ان أرسى نظاما أمنيا متماسكا خلال تربعه على هرم وزارة الداخلية، ونظاما ماليا متماسكا تتسابق البلدان المتحضرة لفك طلاسمه التي وضعت العراق في ذيل قائمة الشعوب الأكثر فقرا.
انها الفوضى التي خلفها إنفجار الهويات والعودة الى زمن العصبيات حيث حلت المتاريس محل الجسور. انها سياسة الترويع اليومي وتسويق المجازر بالجملة بعد أن كانت حتى الأمس القريب تسوق بالمفرد.
قد لا يجدي البحث في الأزمة البنيوية التي تحيق بالنظام السياسي الطائفي نفعا في ظل هيمنة أمراء الطوائف وولائم قراصنة الأحزاب الذين أتفقوا على معظم الصفقة واختلفوا على ثمن حقيبتي الدفاع والداخلية، لكن التعاويذ وحرق البخور والحرمل لا يجدي نفعا هو الآخر بطرد تلك الأرواح الشريرة التي جثمت على صدر العراقيين. فالحقبة المالكية التي خيمت على سماء العراق ثمانية أعوام، لم تنتهي بعد. ثمة تغيير طفيف في الوجوه ومثله في المواقع. أما الأزمات المتشابكة فوق السطح فأنها في تزايد. “داعش” وسعت من رقعة تمددها على الأرض. والتحالف الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة بقيادتها لاستئصال “السرطان” كما أطلق الرئيس أوباما على التنظيم الأكثر تطرفا واجراما، يستمد شرعيته من سيمفونية محاربة الارهاب التي دأب على عزفها جورج بوش وجوقة اليمين الامريكي المتصهين، لكنه سيطارد الشرعية العراقية، بشقها الشعبي الملتبس والموزع بين طروحات البرنامج الحكومي الذي أنشده العبادي في مدرج البرلمان والداعي الى حصر السلاح بيد الدولة، وبين الشرعية الدينية التي تستمدها فصائل الحشد الشعبي المسلحة من فتاوى رجال الدين، ومن الانجازات العسكرية التي حققتها في الميدان أيضا.
لم يكن حلم التغيير جذريا بطبيعة الحال، لكنه حلم بالتغيير فيما يمس حياة المواطن اليومية. حلم بعودة المستشفيات الى تحقيق الأهداف الصحية التي أُنشأت من أجلها بعد أن تحولت الى مسالخ بشرية تعمها فوضى الفساد والترهل البيروقراطي الذي يعي ان زبائنه هم الفقراء ..والفقراء فقط. تغيير القوانين والتعليمات الجائرة والمتخلفة التي تشيع الفوضى في المدارس والجامعات والمصارف وجميع مؤسسات ومفاصل الدولة، والتي يدفع المواطن ثمنها غاليا من وقته ومن جهده ومن جيبه، وهو يلهث خلف تصديق وثائقه التعريفية الاربعة التي إختزلتها جميع دول العالم، حتى المتخلفة منها، بوثيقة واحدة. لكن القراصنة الذين أنجزوا ملايين البطاقات الانتخابية العصية على التزوير في أقل من شهر، عجزوا عن إنجاز بطاقة المواطن غير القابلة للتزوير لتغنيه عن نظرات الشك والريبة التي تلاحقه في دوائر الدولة التي غالبا ما تطالبه بصحة صدور وثائقها التي أصدرتها دوائر حكومية أخرى.
حلم بسيط بالتغيير أجهضه كرنفال القراصنة كعادته في وأد أحلام العراقيين منذ ما يزيد على عقد من الزمان..
هل نحلل الأزمة البنيوية للنظام أم نكتفي بالتعاويذ وإحراق البخور والحرمل..؟