5 نوفمبر، 2024 4:51 م
Search
Close this search box.

كرنفال التحرير و”ملحمة” الجسر..

كرنفال التحرير و”ملحمة” الجسر..

قيل قديمًا عندما تقود الحكومة، الشعب إلى الخراب بشتى الوسائل و الإمكانات، يصبح عصيان كل فرد من أفراد الشعب حقًا من حقوقه، بل واجبًا وطنيًا، تلك الكلمات التي مضى عليها العقود من السنين، تجدها واضحة بجميع تفاصيلها بالاحتجاجية الشعبية في ساحة التحرير، وسط العاصمة بغداد، فهي تعيش اجمل أوقاتها مع الجموع الكبيرة من الشباب وكبار السن وحتى الصبية، الذين يشكلون حجمًا كبيرًا من تلك الاحتجاجات بهتافاتهم وإقدامهم على التضحية امام قنابل الموت التي تشم رائحتها عند وصولك الى ساحة النصر، التي تفضل طريق المحتجين عن بقية المناطق وتشكل بداية لمشاهد لم تسجلها الدراما حتى الان.
فعندما تتجاوز مدخل ساحة النصر ستشاهد على يمينك عجلة “التكتك” التي تستقبلك بجملة خطت على مقدمتها تقول “لن نعود حتى يسقط النظام”، لتستمر بعدها متجولا بين مواكب توزيع الماء والمشروبات الغازية والفواكه، حتى يصادفك رجل كبير وآخر شاب يحملان صندوق يحتوي على وجبات سريعة، يتوسلان لتاخذ منهما، وهناك شاب يهتف وهو يقدم الحلويات “حلي على عناد عبد المهدي”، في حين تمتد على جانب الطريق تجمعات للشباب يعلوا من داخلها أصوات الأغاني الحماسية والأناشيد التي تنادي بالتغيير وعدم الخوف من مواجهة الموت بالقنابل او الرصاصات في سبيل انتهاء مرحلة الفساد، وسط دبكات ورقصات يشارك فيها الشباب من الذكور والإناث، فيما يتكفل بعض الشباب برفع الاعلام والرايات التي تؤكد على وحدة الصف وبعضها يرمز لشهادة الإمام الحسين وأهل بيته (عليهم السلام) وكأنك تعيش في اجواء كرنفال فرح تمتزج فيه السعادة بالحزن على الدماء التي سالت من اجل الحرية، وقبل ان تصل ساحة التحرير تشاهد سيارات الإسعاف وهي تصطف على جانبي الطريق لتستقبل الجرحى والشهداء الذين تنقلهم عجلات التكتك من جسر الجمهورية في حركة نظامية وتنسيق يثير الإعجاب.
لكن المشهد في ساحة التحرير يختلف قليلًا رغم استمرار تجمعات الغناء والأهازيج، فالجميع ينظر باتجاه المطعم التركي الذي اطلق عليه الشباب المتظاهرين تسمية “جبل احد” الذي دارت عنده المعركة الثانية بين المسلمين ومشركي قريش والمعروفة بمعركة احد، وكيف ساهمت تلة الرماة التي غادرها المسلمون في حسم المعركة لصالح الطرف الآخر، فهم يحاولون إيصال رسالة مفادها، لن نغادر بناية المطعم التركي حتى لا تعاد “الهزيمة”، فبناية المطعم كانت تستخدم من قبل قوات مكافحة الشغب والقناصة لقمع المتظاهرين ومنع تجمعهم في ساحة التحرير خلال الاحتجاجات السابقة، حيث كان احد طوابقه بمثابة غرفة عمليات للمشرفين على إنهاء التظاهرات، لكن المشهد في التظاهرات الحالية يختلف حيث سيطر الشباب المتظاهر على البناية بشكل كامل وأصبحت مقرا يتحصنون بداخلها بأعداد كبيرة لا يمكن حصرها وقد تتجاوز الثلاثة آلاف موزعين على طوابق بناية المطعم البالغة 14 طابقا، التي هجرت بعد قصفها من قبل القوات الأمريكية لدى دخولهم بغداد في العام 2003.
وبجولة حول بناية “جبل احد” تشاهد زخما كبيرا عند مداخله فرغم امتلاء الطوابق يحاول المئات الصعود والالتحاق بالمتظاهرين المعتصمين بداخلها، فيما ينقل اخرون صناديق الماء والمشروبات الغازية والطعام عبر السلالم متحديا التعب والإرهاق بسبب تعدد الطوابق وبعد المسافات في مشهد يعكس حالة التلاحم بين الجميع وأقرب ما يكون لعمل خلية النحل، فهنا الجميع يعرف واجبه وكيف ينجزه، وبمجرد وصولك لسطح البناية بعد تجاوز جميع الطوابق ستكون على موعد مع منظر لا يمكن وصفه بالكلمات، فهنا المشهد يختلف وكأنك تنظر عبر شاشة عملاقة لملحمة درامية من قصص ثورات الشعوب فالروايات ترفرف في كل مكان والهتافات تعلوا على أصوات القنابل المسيلة للدموع، ليجبرك الفضول بعدها على النزول عند الخط الاول في المواجهة مع المقنعين اصحاب الملابس السوداء المتواجدين فوق جسر الجمهورية، الذي يفصل المتظاهرين عن المنطقة الخضراء.
نعم… المكان هنا اشبه بساحة معركة، عمليات “كر وفر” بين المتظاهرين والمقنعين الذي يرافقون قوات مكافحة الشغب، حتى تحول الجسر الى ثكنة عسكرية تمتد عليه الحواجز الكونكريتية التي تفصل الطرفين عن بعضهما ورغم كثافة القنابل المسيلة للدموع لكن المتظاهرين يزحفون نحو الحواجز يتقدمهم شباب يرتدون أقنعة وخوذ تغطي الرأس ويحملون بايديهم قطعا من الحديد بينهم “اطباق” ستلايت، لاستخدامها كدروع لصد القنابل، فصورة المعركة اشبه بواقعة الطف، الشباب يتسارعون لاستقبال القنابل المسيلة للدموع وكانهم يشقون الحواجز ليدفعوا المقنعين بعيدا عن مخيمات اخوانهم، ستشاهد هناك علي الأكبر وهو يصول ويجول بين الكتل الكونكريتية ليسبقه القاسم وهو يرفع راية النصر ليغيض بها معسكر المقنعين، وهناك تشاهد العباس تتجلى شجاعته بفرسان يتقدمون لصيد القنابل، ومن يتعرض للإصابة تحمله اسعاف التكتك الذي اصبح “أيقونة الاحتجاجات” لتعود به الى الخلفيات حيث تنتظره ملائكة الرحمة، لكنه يمر بطريقه بالشباب وهم يهتفون بالأهازيج الوطنية ويرقصون على صوت الأنغام الحماسية، وكانهم يعيدون شحن المصاب بالهمة فتراه يعود مرة ثانية بعد تلقي العلاج بفروسية اكبر، لتختلط لديك في حينها دموع الفرح والحزن معًا.
الخلاصة… ان صلابة الشباب المتظاهرين في ساحة التحرير أصبحت مضربًا للأمثال في الشجاعة والكرم والتضحية، فهم مصرون على “هزيمة” الباطل واحداث التغيير الذي عجزت عنه جميع الحركات المدعومة سياسيا خلال السنوات الماضية، فهؤلاء من جيل التسعينيات والألفين اقسموا بان لا يعدوا لمنازلهم حتى النصر او الشهادة… اخيرا السؤال الذي لابد منه،، متى ستحقن الدماء ويغادر “سفلة” السلطة مناصبهم؟..

أحدث المقالات

أحدث المقالات