18 ديسمبر، 2024 9:39 م

كركوك والاستفتاء والخيارات الكردية الصعبة

كركوك والاستفتاء والخيارات الكردية الصعبة

قبل خمسة شهور، عابتني صديق كردي يعمل في الحقل الاكاديمي على مقال كتبته في هذا الفضاء تحت عنوان “الهروب الكردي نحو كركوك”، معتبرا ان ذلك العنوان كان قاسيا الى حد كبير، فضلا عن ان ما تضمنه المقال، كان-بحسب صديقي الكردي-بعيدا عن الواقع، “انطلاقا من زاوية ان مختلف الحقائق والمعطيات التأريخية تؤكد، ان كركوك مدينة ذات هوية كردية، تحتضن مكونات اجتماعية اخرى، وانه من الطبيعي والمنطقي ان تنعكس وتتجلى تلك الهوية الكردية على مختلف مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للمدينة، واكثر من ذلك، ان أي مشروع لاستقلال الاقليم لابد ان يستوعب ويشمل مدينة كركوك، واية عراقيل ومعوقات في هذا السياق، تعد امرا طبيعيا ومتوقعا، في ظل ظروف واوضاع استثنائية يعيشها العراق بالكامل وليس مدينة كركوك لوحدها”.

وقبل بضعة ايام كنت اتحادث هاتفيا مع ذلك الصديق، حول امكانية اجراء الاستفتاء على انفصال اقليم كردستان في الموعد المقرر، الخامس والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر الجاري، وفرص نجاحه، فكان من بين ما قاله “ان ما يجري في كركوك من تداعيات سياسية خطيرة، يمكن ان يخلق ازمة كبيرة تنعكس اثارها السلبية على الواقع السياسي للاقليم”.

ولعل العبارات الاخيرة التي قالها الصديق الكردي، تختزل مجمل مظاهر القلق والخوف السائدة في الاقليم حاليا لدى الساعين الى الاستفتاء والانفصال، وكذلك المعارضين لهما، على حد سواء، لان اصحاب القرار السياسي الكردي، ومن بأيديهم زمام الامور، عمدوا عن قصد او من دون قصد الى خلط الاوراق وبعثرتها، وتوسيع مساحات الاحتقان والتشنج، لاسيما حينما قرروا “اقحام” كركوك في الاستفتاء، والتلويح بضمها الى الدولة الكردية المرتقبة.

وكان هذا كافيا لتأزيم الموقف بدرجة اكبر، خصوصا بعدما عمد اعضاء مجلس محافظة كركوك الاكراد، في التاسع والعشرين من شهر اب-اغسطس الماضي، الى التصويت على شمول المحافظة بالاستفتاء وسط مقاطعة ورفض زملائهم العرب والتركمان، وقبل ذلك اصدار محافظ كركوك نجم الدين كريم في اواخر شهر اذار-مارس الماضي، توجيهات تقضي برفع علم اقليم كردستان الى جانب العلم العراقي فوق المباني الحكومية بالمحافظة.

ولاشك ان الامر غير المنطقي ولا المعقول هو سعي اصحاب القرار الكردي الى شمول كركوك بالاستفتاء، ليفضي ذلك الى تصعيد كبير وخطير مع العرب والتركمان، لايستبعد البعض ان ينتهي الى اقتتال مسلح يدفع المدينة الى نفق مجهول، بينما فشل هؤلاء-أي اصحاب القرار الكردي-في اقناع شركائهم في الاقليم بالموافقة على اجراء الاستفتاء او في ادنى تقدير التزام الصمت وعدم الافصاح عن موقف واضح وصريح بالرفض.

ففي الوقت الذي يحرص رئيس الاقليم المنتهية ولايته مسعود البارزاني على التأكيد مرة بعد اخرى على اجراء الاستفتاء في موعده، وشمول كركوك فيه، والتبشير بالدولة الكردية المستقلة، يبادر خصومه في حركة التغيير (كوران) والجماعة الاسلامية الى اصدار بيان جديد مشترك، يجددون رفضهم اجراء الاستفتاء في الموعد المقرر، ويطالبون بالتأجيل الى وقت اكثر ملائمة، وعلى ضوء تشريع يصدر من برلمان الاقليم المعطل منذ اكثر من عامين.

ويؤكد الحزبان على ان الاولوية في هذه المرحلة ينبغي ان تتمحور حول تحسين اوضاع مواطني الاقليم، والغاء قرار الادخار الاجباري لجزء من رواتب الموظفين، واجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في موعدها المقرر، وانهاء احتكار السلطة السياسية من قبل طرف واحد. علما ان حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يعد الخصم والمنافس التقليدي للحزب الديمقراطي الكردستاني يفتقر الى موقف واضح ومحدد، ربما لانه يتجنب الاصطدام المباشر مع الديمقراطي، تاركا المهمة للتغيير والجماعة الاسلامية، ومن جانب اخر، قد تكون التصدعات الداخلية الحادة فيه بعد غياب امينه العام جلال الطالباني منذ ستة اعوام بسبب المرض، عائقا امام بلورة موقف قوي وواضح وموحد، سواء بالنسبة للاستفتاء او غيره من القضايا والملفات الخلافية الداخلية.

وما لم يتم تداوله وتسليط الضوء عليه بالقدر الكافي حتى الان، هو ذلك التصدع والتشضي الذي اوجده ملف الاستفتاء في داخل كيان الحزب الديمقراطي الكردستاني نفسه، ففي حين يقود البارزاني الرئيس، الاتجاه الداعي بقوة الى اجراء الاستفتاء والاسراع باعلان الانفصال، يذهب صهره ونجل اخيه ونائبه في رئاسة الحزب ورئيس الحكومة نيجرفان البارزاني الى التروي، وتجنب التصادم الحاد مع الارادات الاقليمية والدولية التي تقول جميعها بضرورة ووجوب التأجيل والتريث.

ويقف الى جانب الرئيس البارزاني نجله مسرور، الذي يشغل منصب مستشار امن الاقليم، وفاضل ميراني سكرتير المكتب السياسي للحزب، وفؤاد حسين رئيس ديوان رئاسة الاقليم، في حين يحظى نيجرفان بدعم وتأييد شخصيات سياسية معتدلة من قيادات الحزب، مثل روز نوري شاويس، وشخصيات اخرى من العائلة البارزانية.

ويتوقع ان تؤدي تلك الاصطفافات الى تغذية الصراع والتنافس بين نيجرفان من جهة، ومسرور من جهة اخرى، لاسيما وان مسألة خلافة الرئيس البارزاني راحت تطرح في كواليس الحزب والعائلة الحاكمة بقوة منذ عدة اعوام، مع تقدم البارزاني في السن، وتزايد مشاكله الصحية، ناهيك عن الازمات والمشاكل السياسية والاقتصادية التي تفاقمت الى حد كبير خلال العامين المنصرمين، بحيث افقدت الحزب الديمقراطي قدرا غير قليل من شعبيته وتأثيره ونفوذه في الاقليم.

ومن الان وحتى موعد اجراء الاستفتاء، ثلاثة اسابيع، ومن غير المستبعد ان تحصل مفاجاءات، من قبيل اعلان البارزاني تأجيل الاستفتاء فترة من الزمن، والاكتفاء بأجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها المقرر، الاول من شهر تشرين الثاني-نوفمبر المقبل، التي ربما ستكون واحدة من اهم وابرز معطياتها ونتائجها هو تنحي او تنحية البارزاني عن رئاسة الاقليم.

اما في حال استمر الاصرار والتعنت الكردي على اجراء الاستفتاء في موعده المفترض، فأن اقليم كردستان-كما هو الحال بالنسبة لكركوك-قد يواجه احداثا غير سارة، وفي افضل الاحوال ينتهي الاستفتاء بـ”نعم” ضعفية، لا تختلف عن الـ”لا” سوى بنسبة ضئيلة، وهو ما يعني ان الامور لن تسير مثلما يريد ويطمح البارزاني الاب وفريقه السياسي الحاكم. وسيجد نفسه محاصرا بدرجة اكبر من قبل خصومه في الداخل، ومحيطه الاقليمي، واصدقائه الدوليين، وبالتالي ستستمر دوامة الازمات في الاقليم، وستضيع مفاتيح الحلول، وتتلاشى مكاسب وطموحات الاستفتاء والانفصال.