19 سبتمبر، 2024 4:26 ص
Search
Close this search box.

كركوك بين الحلول الهشّة وازمة الثقة!

كركوك بين الحلول الهشّة وازمة الثقة!

“تمخض الجبل فولّد فأرا”.. هكذا وصف احد السياسيين، النقاشات والسجالات والمفاوضات التي امتدت لبضعة شهور بخصوص تشكيل الحكومة المحلية في محافظة كركوك، وتوزيع المناصب العليا فيها، على ضوء نتائج ومخرجات انتخابات مجالس المحافظات، التي جرت في الثامن عشر من شهر كانون الاول-ديسمبر من العام الماضي 2023.
ويبدو هذا الوصف قريبا جدا الى الواقع، لان ما يمكن تسميته بـ”صفقة” توزيع المناصب، التي انتهت الى ذهاب منصب المحافظ لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، ومنصب رئيس مجلس المحافظة الى كتلة “القيادة” القريبة من حزب تقدم، جرت بين بعض الاطراف، فيما استبعدت منها او ابتعدت اطرافا اخرى عنها، مما يؤشر الى بقاء كركوك في دائرة التوتر والتأزم والاحتقان السياسي، خصوصا ان الغائبين او المغيبين، قوى مؤثرة سياسيا ومجتمعيا، مثل الجبهة التركمانية، وبعض العرب السنة، وكذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني.
في واقع الامر، لاترتبط مجمل مشاكل كركوك بالمرحلة الحالية الراهنة، بل ان جذورها تمتد ربما الى اربعة عقود من الزمن او اكثر، حينما اقدم نظام صدام على تنفيذ حملة “تعريب” واسعة، اريد من ورائها تضخيم وجود المكون العربي على حساب المكونين الكردي والتركماني، ولعل ذلك المخطط كان بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت، وبالفعل هذا ما حصل بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، اذ برزت ردود الافعال غير المدروسة بدقة وعناية، لتخلق اوضاعا مضطربة وقلقة للغاية، عمقتها جملة عوامل، من بينها، طبيعة المشهد السياسي العام في البلاد، الذي طغى عليه انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، والتنافس الحاد على المواقع والامتيازات، وسعي كل طرف الى اضعاف وتهميش والغاء الطرف الاخر، دون الالتفات إلى العواقب والارتدادات اللاحقة، ووجود الاجندات والمشاريع والتدخلات الخارجية.
كذلك، فأن ظهور الجماعات والتنظيمات الارهابية-لاسيما تنظيم القاعدة-وتوسعها، وتعاونها مع بقايا النظام السابق، ساهم الى حد كبير في تكريس مظاهر الفوضى، وغياب الامن والاستقرار، واتساع نطاق التناحر السياسي، خصوصا في المدن والمناطق ذات النسيج الاجتماعي المتنوع قوميا ومذهبيا وطائفيا، كمحافظة كركوك.
كل تلك الاسقاطات وغيرها، حالت دون اجراء الانتخابات المحلية في كركوك في عامي 2009 و 2013، لتبقى الامور على حالها تدور في حلقة مفرغة من الصراعات والتجاذبات، طيلة فترة زمنية طويلة امتدت من عام 2005، حيث انتخابات مجالس المحافظات التي شملت كركوك ايضا، وحتى انتخابات الثامن عشر من كانون الاول-ديسمبر 2023.
واضافت تداعيات الاستفتاء على انفصال اقليم كردستان، الذي جرى في الخامس والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر 2017، المزيد من التأزيم والتعقيد في كركوك، وتحديدا بعد الخروج الكردي من المدينة في السادس عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر من ذلك العام، وتبدل موازين القوى لصالح المكونين العربي والتركماني فيها.
ولاشك ان هذه الصورة المضطربة بخطوطها والوانها وعناوينها المتداخلة والمتشابكة والمتضاربة لكركوك، القت بظلالها الثقيلة على مشهد الانتخابات المحلية العام الماضي، واشرت منذ وقت مبكر الى الواقع المعقد للمحافظة، وهذا ما تبّدى بوضوح اكبر من خلال نتائج الانتخابات، التي اوجدت حالة استقطاب حادة، ونزعة كل طرف للاستحواذ على حساب شركائه الاخرين.
ولخطورة الموقف، والخشية من انزلاق الامور الى نقاط حرجة ومنعطفات خطيرة، وللخروج من عنق الزجاجة، بادر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الى التدخل المباشر، وعقد عدة اجتماعات مع رؤساء الكتل السياسية والنخب والشخصيات السياسية المؤثرة في كركوك، دون التوصل الى حلول مرضية للفرقاء، وما نجح السوداني فيه هو التئام مجلس المحافظة المنتخب للمرة الاولى، بأعضائه الستة عشر، بعد سبعة شهور على الانتخابات، في الحادي عشر من شهر تموز-يوليو الماضي، بيد ان شيئا لم يتحقق، في ظل تعنت كل الاطراف واصرارها على مواقفها ورؤاها، الى ان اجتمع تسعة اعضاء من مجموع خمسة عشر عضوا في مجلس محافظة كركوك، في العاشر من شهر اب-اغسطس الجاري، بفندق الرشيد بالعاصمة بغداد، وتوافقوا فيما بينهم على “صفقة” توزيع المناصب، مع ابقاء حصة الغائبين منها شاغرة.
وبصرف النظر عن الخيار الذي انتهت اليه الامور لادارة كركوك، فأن مجمل المؤشرات تؤكد استمرار المأزق، ان لم يكن تعمقه بدرجة اكبر، وهو ما يعني ان الامور ستكون قابلة للتفجر في أي وقت، خصوصا في ظل غياب الثقة بين الفرقاء.
وفي حقيقة الامر، تعد ازمة كركوك، صورة مصغرة للازمة السياسية العامة في العراق، التي محورها واساسها ازمة غياب وانعدام الثقة. وكما قلنا سابقا، ان هذه الازمة تتمثل بمستويين، الاول مستوى المكونات، الذي نرى مصاديقه واضحة وجلية بعد كل انتخابات برلمانية عامة، او انتخابات محلية، حيث تشكيل الحكومة او الحكومات، والتدافع المحموم لقوى وشخصيات كل مكون من اجل الحصول على اقصى قدر من المكاسب والامتيازات. والمستوى الثاني يتمثل بمستوى المكون الواحد، اذ نجد انه في داخل كل مكون من المكونات-العربية والكردية والتركمانية-خلافات وتقاطعات حادة في اغلب الاحيان، وبالنسبة للمكون الشيعي، تبرز الخلافات والتقاطعات واضحة عند اختيار رئيس الوزراء، وعند تشكيل الحكومات المحلية في المحافظات ذات الاغلبية الشيعية، او ذات الهوية الشيعية الكاملة، كما هو الحال بالنسبة لمحافظات الجنوب والفرات والاوسط، وقد شهدنا الكثير من التجاذبات والمساومات في مسألة توزيع المناصب وتشكيل الحكومات المحلية على ضوء انتخابات كانون الاول-ديسمبر 2023، وفيما بعد فإن ازمة اختيار محافظ ديالى، التي انتهت نهاية قلقة ومضطربة، وتتشابه في بعض اوجهها مع ازمة كركوك، تعد مصداقا على ما ذهبنا اليه.
وبالنسبة للمكون السني، وحتى لانذهب بعيدا، فإن ازمة رئاسة البرلمان، بعد تنحية رئيسه السابق محمد الحلبوسي بسبب التزوير، عكست عمق وخطورة المأزق بين اطراف هذا المكون. وهذا ليس بالامر الجديد، بل ان قوى واطراف وزعامات المكون السني غالبا ما تصادمت وتقاطعت وتصارعت على المناصب والمواقع، في الحكومات الاتحادية المتعاقبة، والحكومات المحلية للمحافظات ذات الاغلبية السنية، مثل الانبار ونينوى وصلاح الدين.
ونفس الشيء، إن لم يكن اعقد واصعب، لدى المكون الكردي، بسبب التراكمات التأريخية الطويلة من الصراعات بين قواه الرئيسية، وتحديدا الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ولعل جانب غير قليل من الازمات والمشاكل الداخلية في اقليم كردستان منشأها تلك الصراعات، ناهيك عن انعكاسها على التنافس الحاد حول استحقاقات المكون الكردي في السلطات الاتحادية، كما هو الامر بالنسبة لرئاسة الجمهورية ومناصب عليا اخرى.
ولايختلف الحال مع المكون التركماني، الذي تنقسم قواه السياسية والمجتمعية بين الفضائين السني والشيعي، وتنقسم كذلك في ارتباطاتها الخارجية، فضلا عن طبيعة علاقاتها وتحالفاتها مع قوى المكون الكردي.
وقد عكست “صفقة” تشكيل حكومة كركوك المحلية، واقع الخلافات والتقاطعات والتدافعات بين الفرقاء العرب والاكراد والتركمان بأوضح واجلى صورة.
واذا كان المشهد المرتبك والمضطرب في كركوك يختزل الصورة الاجمالية العامة للمشهد السياسي العراقي العام، فإن غياب الحل الحقيقي، يعني فيما يعنيه، استمرار المسارات المتعثرة على سكة “ازمة الثقة”، وفي حال تحلحلت بعض العقد، فإن البعض الاخر منها يحتاج الى المزيد من الوقت، والمزيد من الجهد، والمزيد من التنازلات، والمزيد من النوايا الحسنة، والارادات الصادقة، لان التغلب على “ازمة الثقة” يمثل المفتاح لتفكيك كل العقد والاشكالات، وحل كل المشاكل والازمات.
——————————-
*كاتب وصحافي عراقي

أحدث المقالات

أحدث المقالات