لا داعي هنا للحديث عن الاستفتاء المرتقب، ولا عن الاستقلال الذي بشرت جماعة السيد مسعود البرزاني بأنه قادم، بعده، لا محالة. وذلك لأننا كتبنا كثيرا عنه وعن أصحابه الشرعيين، ولم يعد لدينا عنه جديد.
ولكن حيرتنا كبيرة في فهم إصرار السيد البرزاني وحزبه والمتحلقين حوله على أن يواصلوا السير إلى النهاية بمشروعهم غير المناسب الذي جاء في الوقت غير المناسب وفي المكان غير المناسب أيضا، وأن يقفزوا إلى مجهول، آخذين معهم شعب كردستان، رغم أنهم هم يرون ويسمعون ما تخبؤه البحار المحيطة بزورق الإقليم الصغير من عواصف وأمواج وتماسيح لإغراقه قبل أن يبدأ المسير. خصوصا وأن دولة كردستان (الموعودة) لن تكون بقوة إسرائيل العسكرية والمالية والسياسية، وأن أمريكا لن تكون لكردستان العراق كما هي لإسرائيل، وأن إسرائيل التي يشاع أنها صاحبة المشروع لن تقاتل المشاغبين المحليين الإيرانيين والعراقيين والأتراك دفاعا عن السيد مسعود ومملكته البرزانية العتيدة، لتمنعهم من خنق وليدها الصغير. ولو كانت قادرة على فعل كل ما تراه ضروريا لأمنها ومستقبلها لفعلته من عشرات السنين.
ومن يتأمل واقع لبنان مع سوريا وواقع قطر مع السعودية ولا يتعلم، قبل أن يقع الفاس الراس، إما مغامر مستهتر يقامر بأمن شعبه وحريته وكرامته فنحكم عليه بأنه لا يصلح لقيادة، أو أعمى وأطرش لا يرى ولا يسمع فنحكم عليه، أيضا، بأنه لا يصلح لقيادة.
ثم، بصراحة، كان من الممكن أن يكون لنا كلام آخر عن الاستفتاء والاستقلال لو لم يكن دعاةُ (الحق المشروع للشعب الكوردي) هم هؤلاء الذين تحالفوا مع أحزاب إيران الطائفية العميلة المتخلفة، من عام غزو صدام للكويت، 1990، وفي يوم الغزو الأمريكي للعراق، وأصروا، معهم، على إلغاء الجيش والشرطة والأمن، وفَصَّلوا الدستور والقوانين على مقاسهم ومقاس أحزابهم وقبائلهم، وتقاسموا المناصب والمكاسب والرواتب، والمقالب أيضا.
نعم، هؤلاء هم الذين خَبِرَهم شعبُهم الكوردي، قبل العربي، وذاق أمانتهم، وشرب نزاهتهم، وجرب أبناءهم وإخوتهم وأحزابهم، في ربع قرن من الزمان، ولم يعد في الحديث عن فسادهم مزيد.
فقد جعلوا الوطن وطنَهم، هُم، وليس وطنَ المواطنين، والسيادةَ سيادتَهم، والمالَ كلـَّه مالَهم، وليس مال الله ولا عباده الكردستانيين.
وحتى الأمن الذي أخلصوا في حفظه، واستماتوا في ترسيخه، وقتلوا من أجله، واغتالوا واختلسوا واختطفوا وسلحوا مليشياتهم للدفاع عنه، لم يكن هو أمنَ الوطن والمواطن، بل أمنَهم وأمنَ مزارعهم وعماراتهم وطائراتهم الخاصة وبنوكهم وشركاتهم التي اكتنزوها ليس لأشخاصهم وأحزابهم فقط، بل لأولاد أولادهم، وأحفاد أحفادهم أجمعين.
فلا يمكن، بعد كل ما انكشف من أمورهم، أن يؤتمنوا على وطن ومواطن، قطعا ودون نقاش.
تقول السيدة آلاء طالباني عضو المجلس القيادي رئيسة كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني في مجلس النواب العراقي: ” إن إجراء الاستفتاء من دون كركوك لا معنى له”.
ويطالب السياسي المخضرم الدكتور محمود عثمان قادةَ الاحزاب الكردستانية بإجراء حوارٍ جدي مع الحكومة الاتحادية بشأن الاستفتاء واستقلال كردستان، ويقول: “إن الكرد يرغبون بتأسيس دولة خاصة بهم، لكنَّ هذا يجب أن يخضع لظروف وعوامل عدة تتعلق بالأوضاع في المنطقة، وترتيب البيت الكردي، وعدم معاداة دول الجوار، وأن تكون هناك ضمانات من أمريكا وروسيا والدول الكبرى”، ” وشيءٌ واضح من هذا القبيل لا يتوفر في الوقت الحالي”.
والنائب عن كتلة التغيير مسعود حيدر يقول: “إن مسألة تقرير المصير حقٌ كفله القانون، وجميعُ الأحزاب الكردية بلا استثناء مع تطلعات الشعب الكردي، إلا أن مسألة إعلان الدولة الكردية لاتحتاج إلى دعاية وتصريحات، وإنما لعملٍ على أرض الواقع. والخطوةُ الأولى هي الاستقرار السياسي والاقتصادي، ثم العمل على وحدة الصف. وكل هذه الأمور غير موجودة في الإقليم الآن”.
ومن قرأ بيان حكومة بغداد عن الاستفتاء والانفصال ولم يدرك أنه إعلانُ حربٍ، بالقلم العريض، واهمٌ ونعامة تدفن رأسها بالرمال.
فهو رسالة إيرانية ذابحة واضحة، ولكنْ مكتوبة بلغة عراقية ناعمة، ومرسلة إلى أربيل وواشنطن وتل أبيب، مفادُها أن على (الدويلة) المقبلة، إذا ما خرجت من البيضة، أن تتهيأ، من الآن، لمصارعة ثيران الحرس الثوري، والحشد الشعبي، وباقي مليشيات قاسم سليماني. وهذا ملخص الرسالة:
أولا:
إذا ما كانت النتيجة لصالح الاستقلال فيتم إعلان استقلال الإقليم ضمن (الحدود الإدارية الحالية)، عدا المناطق المتنازع عليها.
(أي بدون كركوك والمناطق المُتنازع عليها بين شركاء المحاصصة الواحدة). ثم تقوم الحكومة العراقية بصياغة دستور عراقي جديد تُضمنه ما يلي:
1- رفع جميع الشعارات والديباجات والمخاطبات المكتوبة باللغة الكردية، بما في ذلك تبديل جواز السفر العراقي والبطاقة الوطنية بما يجعلها باللغتين العربية والإنكليزية فقط، واعتبار اللغة الكردية لغة أجنبية.
2- سحب الجوازات والبطاقة الوطنية والجنسية العراقية من جميع الأكراد داخل العراق الجديد وخارجه، بمن فيهم الكورد الفيلية، ويُعامَل المواطنون الأكراد داخل العراق معاملة المقيم (الأجنبي) في كل الأمور، بما في ذلك الحقوق المدنية، مثل التملك وتقلد المناصب والدراسة وغيرها.
3- سحب أيدي جميع الموظفين الأكراد من درجة مدير عام فصاعدًا، بما في ذلك المناصب الرئاسية والدستورية، وكذلك المناصب التي يشغلها الأكراد في القنصليات والسفارات العراقية بلا استثناء، وإيقاف صرف رواتب الرعاية الاجتماعية والشهداء والسجناء السياسيين والمهجرين الأكراد داخل وخارج العراق وتحويل صرفها من قبل خزينة الدولة الكردية الجديدة.
4- حل جميع التشكيلات العسكرية الكردية، وتسفير أعضائها الى الدولة الكردية الجديدة.
5- حل جميع التنظيمات السياسية الكردية داخل العراق، واعتبار تشكيل أي تنظيم سياسي أو عسكري مهددا للأمن القومي العراقي.
6- لا يجوز للمواطن الكردي المقيم في العراق الجديد بيع أو مقايضة أمواله غير المنقولة، مثل العمارات السكنية والتجارية والمعامل والمصانع والمزارع والأراضي غير المستثمرة والأسهم في الشركات العراقية، وتحويل أموالها خارج العراق الجديد.
7- في حال رغبة المواطنين من غير المكون الكردي في المناطق المُتناطَح عليها في الانضمام إلى لدولة الكوردية الجديدة تُسحب منهم الجنسية العراقية، ويعتبرون مواطنين أجانب تسري عليهم القوانين والتعليمات التي تسري على الأجانب.
ثانيا:
أما إذا كانت نتيجة الاستفتاء (لا) فينبغي على حكومة الإقليم إعادة النظر في علاقتها مع المركز، واحترام قرارات الحكومة الاتحادية، وعدم التصرف بما يتنافى مع روح الأخوة والشراكة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والإدارية، بما في ذلك رفع العلم الوطني الذي يتم الاتفاق عليه بين المكونات، والذي تتمثل فيه جميع المكونات حسب نسبتها العددية، والاتفاق على تعديل الدستور بما يعيد التوازن لحقوق جميع مكونات الشعب العراقي، وإجراء الإحصاء السكاني بعد رفع التغييرات الديموغرافية التي أحدثتها حكومة الإقليم الحالية، لغرض وضع الخطط الوطنية للعراق الموحد، بشكل عادل ومنصف للجميع.
هذا هو ملخص البيان (الحربي) الذي يعني حصارا إيرانيا عراقيا كاملا ومُحكما لكردستان يهون أمامه حصار قطر، وتلاعب نظام الأسد بلبنان. هذا مع احتساب ما ستفعله إيران بالسليمانية، وتركيا بأربيل.
وكما هو حال قطر، لن تجد الدولة الكوردية المرتقبة في شمال العراق للخروج من مآزقها العديدة المعدة لاستقبالها سوى طريقين، إما أن تعود إلى أحضان العراق الدافئة، ولكن دون عنجهية ولا مشاكسة ولا شروط ولا عناد ولا ألاعيب، أو أن تطير بجناحيْن، واحد إيراني وآخر عثماني، وفي عين الحسود عود.
وهنا نسأل: لماذا يُصر السيد مسعود على اتخاذ أهل كردستان دروعا بشرية في حروبه الرئاسية الخاصة التي يخوضها مع خصومه في الداخل، وخصومه في الخارج؟
ولماذا يواصل اللعب بالنار وهو أكثر الناس معرفة بما جرَّه صدام حسين على شعبه بغزوه الكويت، ثم بعناده ورفضه، بناءً على تخيلات وأحلام وأوهام شمشونية خائبة، أي انسحاب منها سلما، مهما كان الثمن؟
ثم ماهي مصلحة المواطن الكوردي في سياسة حكامه التي تدفع به دفعا إلى مقاتلة كل هذه التماسيح، ومصارعة كل هذه الثيران؟