22 ديسمبر، 2024 6:39 م

كردستان: الرجل _ الإنسان

كردستان: الرجل _ الإنسان

في الوقت الذي  كان العراق مسرحاً لمشاهد العنف والقصف والممارسة الطائفية التي تفتك بالبلاد طولاً وعرضاً, شمالاً وجنوباً, شرقاً وغرباً؛ يشهد اليوم موجة جديدة من النزوح الجماعي لألاف العوائل إلى الملاذات الأمنة, من المناطق الساخنة التي تشهد صراعاً دامياً بين السلطة والمعارضة, بحثاً عن خيمة لا تشاغل أوتادها البراميل المتفجرة أو تهديدات الجماعات المُسيطرة على الأرض بالقصف المدفعي, كانت الناس تهرب من الوطن من أجل الحفاظ على المتبقي من رصيدها وما ظل في حوزتها من أنسنة ومستلزمات الحياة الأكثر بدائية, فالصراع مثرّمة تحصد مناجلها الأخضر واليابس, دون توقف إلا بالمباركات الامريكية والتحايلات الدولية.
  لم يجد العراقيين النازحين من المناطق الساخنة ملاذاً يآويهم غير أقليم كردستان, وجبال مسعود؛ الذي فتح لهم الحدود والثغور على مصراعيّها لإستقبال العوائل الهاربة من جحيم القصف الجوي وسطوة الجماعات المسلحة؛ مشرعة الأبواب بموقف أنساني أعتاد عليه الجميع, لتلك الرحمة والمواقف الجليلة والنبيلة المترّسخة في الثقافة الكردية وتعاليمها الروحية, فلم تكن كردستان إلا بيتاً لكل العراقيين العرب بكل اطيافهم, فعلى مر التاريخ كان الأقليم يشكل المحمية الطبيعية التي يلوذ بها الهاربون من أخطاء السياسات الداخلية وعورات السلطة وعاهات راكبي موجتها, وسوء تصرف الجماعات, .. بالآمس كان الإقليم ملاذاً لمعارضة النظام البعثي السابق, وشهدت مؤتمرات ومداولات لإسقاطه وقيادة مرحلة ما بعد صدام, كما إنها كانت مآوى الكثير من العراقيين إبان الإحتلال الأمريكي للعراق العام 2003, ومآوى غيرهم في الموجة الأولى للأرهاب في العام 2006, واليوم تشكل كردستان “المعقل الأمن” للنازحين من جحيم القصف وسطوة الجماعات المسلحة؛ ومن فشل إداراة المحافظات المعارضة لحكومة المركز.
   أنْ كردستان لم تنظر للنازحين والمهجرين _ على مر المرحلة التاريخية السابقة سواء في عهد صدام أو في عهد الإسلام السياسي الحاكم اليوم _؛ على عقائدهم أو هوياتهم وإنتماءاتهم الفردية, .. فكردستان تتجاوز كل الفروقات الطبقية, لتُمثل الجانب الأخلاقي, وتنظر إلى كل العراقيين عرباً أو تركمان, سنة أو شيعة على إنهم إنسانيين, يجمعهم الرابط الأخلاقي والإنساني قبل الديني؛ أي إنها تتعامل معهم وفق المعيار الإنساني الذي تفرضه الثقافة والقيم الكردية والتقاليد العشائرية الآصيلة للمجتمع الكردي, لأن الإنسان مهما يحمل من هويات وعقائد وانتماءات يبقى في النهاية إنسان له حقوقه وحرياته؛ وإن فقدها في موطنه الأصلي لربما يجدها في منفاه ومهجره!
  يُذهلني الموقف الإنساني وأنا أتجول في البازارات والمحلات والدرابين الضيقة في أحد أقضية السليمانية، وما لمسته من لطف تعاملهم ورقة أسلوبهم, وتواضعهم ورحابة صدرهم, إنه أمر بالفعل أدهشني, أجد الإنسانية قائمة بذاتها في المجتمع الكردي, ومتشربه في خلجات بيئتهم على أختلاف ثقافاتهم ومراكزهم الإجتماعية, .. لقد أدركت جيداً سبب التفوّق الكردي قياساً بالشعب العراقي العربي في حكومة المركز أو في المحافظات, وهو سبب وحيد إن الشعب الكردي بأغلبيته يمتلك الموقف الإنساني بدون رتوش أو تصنع أو لعب دور الممثل في تصوير المشهد الإنساني, وهذا ما نفتقده اليوم؛ كعرب؛ وكعراقيين تحديداً! .. فالأنسنة لا تُصنع, أو تُفرض من أعلى, أو تتأتى بدعوة مجانية؛ إنما هي غرس وزرع أُسري وتنشئة اجتماعية بحتة.
  لأن الإنسانية والأخلاق هي الأس الحقيقي لبناء لبُنْة التَطْور والنْهضّة والتَقَدّم, فلا يمكن الحديث عن دور حضاري وريادي نهضوي لشعب ما زال يكذب وينافق ويسرق ويسطو وينهب ويسلب ويتربح بالمال العام, ويوظف السلطة لصالح عائلته وعشيرته, والأقربين؛ وهو أمر مُناط بالغياب الديمقراطي والثقافة السياسية والمدنية التي ما زالت تبعد عنا ممشى قُرنٍ من الزمن!
  كانت وتظل كردستان كمجتمع وأقليم حكومة وشعب يقترن ذكرها بكل موقف إنساني, فلا ننسى إيواءها للشعب السوري, ولأهالي الفلوجة في المرحلة السابقة, واليوم تقف وقفة الرجل الإنسان لأستقبال أهالي الموصل وتكريت وديالى برحابة صدر توفر لهم الخدمات وتسهيل مهمات وإجراءات الدخول تعبيراً منها على الإحساس بالمشكلة العربية والمحلية؛ أو تعبيراً منها على الإحساس بـ “المشكلة الإنسانية” التي نعاني منها اليوم, وإشارة للآخرين بإنها ستظل الملاذ الأمن لكل نازح ومهجر عراقي وعربي من الشمال للجنوب, وإيذاناً بإنها ستظل في صدارة المواقف الإنسانية, فكردستان ليست مآوى لداعش لكنها مآوى وبيتاً أمنٍ لكل عراقي يلوذ ويستنجد بها.
  إنْ النازّح في الأقليم لا يحتاج إلى مواذ غذائية أو مواد طبية, كالعلاج والتداوي, ولا يحتاج إلى مواد منزلية, ما يحتاجه النازحين هو مواد إنسانية تتمثل بالوقوف إلى جانبهم وأستقبالهم والترحيب بهم, والربت على أكتافهم, بل فقط بحاجة إلى كلمة طيبة, وهذا هو شأن المجتمع الكردي.
   فالنازح في الإقليم يشعر بالمواطنة أكثر مما كان يعيشيها في داخل موطنة, لأن الوطن يعني الإنسانية, والإنسانية ماتت في أوطاننا بفعل نابالم السلطة ومفرقعات الجماعات الإرهابية الخارجة عن القانون, فبالوقت الذي كان النازحين والمشردين من أوجاع وطنه, قبلوا بخيمة بحجم الوطن, الغاية منها حفظ أرواحهم, مقابل التنازل عن ديارهم وأهاليهم التي لم تعد قادرة على إيواءهم.
  شكراً لأقليم كردستان, .. أو بالأحرى شكراً لأقليم “أنسانستان”: المواقف والرجال والبطولات!!