مَن لا يفهم التاريخ أو لا يستطيع فهمه؛ فلن يفهم الحاضر، ومن يُنكر حقائقَ التاريخ؛ فهو بالضرورة مُنكر لحقائق الواقع؛ حتى وإن لم يُصرِّح بذلك . لقد حاولت الأنظمة العربية ان تزرع في عقولنا واذهاننا أكاذيب وخرافات ترسخت في عقول البسطاء بحيث أصبحت تمثل الذاكرة الجمعية للمجتمعات العربية التي من الصعب اقتلاعها او نقضها وأصبحت الجماهير لاتقبل بكشف اسرار وحقيقة ان الاغلب الاعم مما درسونا إياه وما تعلمناه في المناهج والكتب المدرسية انما هو محض خرافة واكاذيب كان الهدف منها تعزيز سلطة الحاكم وإبقاء العقل العربي مغيبا . ونتناول اليوم واحدة من اكبر الأكاذيب التي خلقتها وسائل الإعلام المدفوعة الثمن ورسختها في اذهان البسطاء وهي كذبة استخدام النفط كسلاح في معركة تشرين الأول/اوكتوبر 1973 . ففي كل عام وفي السادس من تشرين الأول / اوكتوبر تحتفل الجماهير “بنصر ” أكتوبر ليبداء الحديث عن استخدام النفط العربي في المعركة وكيف جعلت المقاطعة النفطية التي فرضتها الدول العربية النفطية اوربا وامريكا تركع امام المارد العربي وتتردد قصة وزير خارجية الولايات المتحدة الذي جاء متوسلا بملك السعودية من اجل ملء طائرته بالوقود ورفض الملك لحين ان يتمكن من الصلاة في القدس المحررة . وكذلك قصص الملك الذي كان يبكي عندما يتذكر القدس المحتل . لمعرفة الحقيقة حول هذه الواقعة نرجع الى البداية لنرفع الحجاب على ما كان يحدث خلف الكواليس .
في شهر مايس 1973 وفي فيلا عائلة “والنبيرغ ” السويدية ذات النفوذ المالي والاقتصادي الواسع والواقعه في جزيرة ” سالتزجوبادن ” تم عقد اجتماع لمجموعة “بيلدربيرغ” وهي مجموعة تجتمع سنويا تحت حراسات مشددة لمدة ثلاث أيام سنويا لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية ومستقبل تلك الأوضاع ، وكان من بين الحضور (هنري كيسنجر)و(زبيغنو بريجينسكي )و(والتر ليفي) مستشار نفطي ومعد ورقة بيلدبيرغ بالإضافة الى (ديفيد روكفلر ) عملاق النفط الأمريكي ومالك بنك تشيس مانهاتن واللورد (غرينهيل) عن شركة بريتيش بتروليوم، و(جورج بول) عن مؤسسة ليمان براذرز ، و (جايمس اكنز) مستشار من البيت الأبيض و(روبرت اندرسون) رئيس مجلس إدارة شركة اتلانتيك رشيفيلد النفطية، و(وليام بندي) عضو مجلس العلاقات الخارجية ، نيويورك، و (اي . جي . كولادو) نائب رئيس شركة اكسون النفطية ، و(آرثر دين ( شريك قانوني لدار سوليفان آند كروميل ، و(هنري . جي . هينز ( رئيس مجلس إدارة شركة هينز ، وولتر ليفي ()، روبرت ميرفي (من كبار موظفي وزارة الخارجية سابقا )، جون تاور (سيناتور)، وكارول ويلسون (أستاذة في جامعة ام . آي . تي ، (سير إيريك دريك ( رئيس مجلس إدارة بريتش بتروليوم ، و(دينيس هيلي) عضو برلمان البريطاني ، و(سير إيريك رول ( نائب رئيس شركة ووربيرغ وشركاة ، و(سير ريجنالد مالدينع ( عضو البرلمان البريطاني ، و(رينيه غداينير دو ليلياك) من شركة البترول الفرنسية ، و(البارون ادموند دي روتشيلد (مصرفي ، و(ايفون باهر) وزير وزارة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني ، و(هيلموت شميدت ) وزير المالية الألماني ، و(بريجيت برويل ) من مجلس مدينة هامبورغ ، و (ثيو شومر ) ناشر صحيفة دي زييت الالمانية ، و (اوتو وولف فون اميرنوجن ) من غرف التجارة الألمانية ، و(جيفاني اغنيللي ( شركة فيات الإيطالية ، و (المركيز سيتاديني سيزي) ، و(رافائيل جيت (رئيس مجلس إدارة شركة أيني الايطالية و(راييغو ليفي (من جريدة لاستمبا الايطالية ، و(أولوف بالمه) رئيس الوزراء السويدي ،و(ماركوس والنبيرغ) رئيس مجلس إدارة سي _ بانكين ، و(كريستر ويكمان (حاكم البنك المركزي السويدي ، و(اف.جي . فيليبس ( رئيس مجلس إدارة شركة فيليبس الهولندية ، و(غيريت أ. واجنر ) ، و(ماكس كوهنستامن .( رئيس مجلس إدارة شركة رويال دتش شل).وكان المتحدث الرئيسي في الاجتماع هو “والتر ليفي ” الذي استعرض موضوع ابتعاد الدول عن شراء الدولار بعد قرارات نيكسون ولجوء الدول الى شراء الذهب من الأسواق. وكذلك موضوع رفض الحكومة الامريكية طلب رفع معدل إنتاج البترول محلياً المقدم من منتجي النفط المحليين المتخوفين من السماح باستيراد مفتوح للنفط يجعل النفط المستورد من الخليج أرخص من الإنتاج المحلي فتنهار أعمالهم مما ولد أزمة كبيرة في كمية الطاقة المطروحة وبهذا باتت أمريكا بين خيارين الأول إما رفع سعر النفط داخل البلاد والسماح باستخدام آبار جديدة ورفع الإنتاج وتغيير قوانين البيئة أو تسمح بتدفق النفط المستورد مما سيحول النفط المستورد لأرخص من النفط المحلي بحكم فارق الأسعار بين ما تصدره دول النفط و بين السعر المحلي فيكون النفط المستورد رائج بينما الإنتاج المحلي يصاب بالركود . عرض كيسنجر على الاجتماع خطته في تغيير الوضع ودفع الدول الى طلب الدولار . وقد تقرر في ذلك الاجتماع رفع سعر برميل النفط الخام اربعة اضعاف, من 3 دولار للبرميل الواحد الى 12 دولار ولتحقيق ذلك يجب فرض حظر نفط عالمي لتحقيق ذلك الارتفاع ومحاولة عرقلة النمو الصناعي العالمي . ومن اجل تحقيق ذلك الهدف طلب كيسنجر من المجتمعين ان يكون مطلق التصرف في تنظيم السياسة الخارجية الامريكية ، وكان له ما أراد مع انشغال الرئيس الأمريكي ” ريتشارد نيكسون ” بالاتهامات التي وجهت له في ما عرف لاحقا باسم “فضيحة ووترغيت ” . فاصبح كيسنجر مطلق اليد في وضع سيناريو لعبته المالية .
كانت أولى الخطوات التي اتخذها كيسنجر السفر إلى السعودية والتقى بالملك فيصل بان يكون بيع النفط السعودي بالدولار الأمريكي فقط على ان يتم استثمار تلك الدولارات في سندات الخزانة الأمريكية مع تقديم وعد بحماية العرش السعودي وتوفير الأمن العسكري لحقول النفط وتوفير الأسلحة العسكرية المتطورة لهم أيضا . وقد تم تعيين المصرفي (ديفيد ملفورد ) مستشارا للاستثمارات لمؤسسة النقد السعودي (ساما) وليقوم بتوجيه البترودولار السعودي للاستثمار في البنوك المناسبة تحديداً في نيويورك ولندن . في ذلك الاجتماع أعاد الملك على مسامع كيسنجر ما حصل لسمعة المملكة بعد هزيمة القوات العربية في حرب 1967 . ففي يوم 6 حزيران 1967 طرح العراق فكرة حظر تصدير النفط واتخذ قرارا بمنع تصدير النفط للدول المتحالفة مع إسرائيل وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا، والذي طبقته فعليًّا بدءًا من يوم 6 يونيو. وفي مؤتمر قمة الخرطوم في 29 أب عام 1967، أعاد العراق وليبيا طرح موضوع الحظر مرة ثانية ، لكن فيصل رفض رافعًا الشعار أن النفط ليس سلاحًا بل هو مورد اقتصادي يتعين استخدامه في حدود المصالح الاقتصادية والتجارية. وقد تمت معاقبة كل من الحكومة العراقية بانقلاب 17 تموز 1968 ومعاقبة المملكة الليبية بانقلاب 1969 .
خرج كيسنجر من اجتماعه مع الملك فيصل بانطباع ان تحريك الوضع في الشرق الأوسط يحتاج الى حرب محدودة تمنح السادات إمكانية التحرر من الضغوط التي كان يمارسها عليه الشارع المصري وتمنح السعودية موقفا قويا وزعامة تمكنها من ضبط إيقاع الاحداث في منطقة الشرق الأوسط . وفي ذلك كتب (فلاديمير فينوغرادوف) سفير الاتحاد السوفيتي في القاهرة عام 1973 في مذكراتها التي حملت عنوان “مصر في زمن الإبهام مذكرات السفير السوفياتي في مصر خلال حرب أكتوبر 1973″ ترجمة زكريا لبيب والتي نشرتها دار الحصاد للطباعة والنشر عام 2000 في دمشق ” وفي نهاية صيف 1973، تم إرسال حافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشؤون الأمن القومي، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مكلفا بإجراء لقاءات سرية مع الرئيس الأمريكي نيكسون ووزير خارجيته كسينجر، ولكي يغطي سرية سفره فقد مر على موسكو ولندن. كان يتم التحضير لشيء ما ” . فقد قرر كيسنجر ضبط إيقاع الحرب من خلال علاقته بالسفير الاسرائيلي في واشنطن حينئذ (سيمخا دينيتز) و(حافظ إسماعيل) مستشار السادات لشؤون الامن القومي .
في 6 تشرين الأول 1973، هاجمت مصر وسوريا القوات الإسرائيلية في شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان. استطاع الجيش المصري عبورقناة السويس واستقر على الضفة الشرقية للقناة يوم 10 تشرين الأول. فى صباح يوم 7 تشرين الأول ولم يكن مضى على بدءالمعارك أكثر من عشرين ساعة بعث حافظ إسماعيل برسالة إلى كيسنجر ، جاء فيها بالنص فى البند رقم 6 من الرسالة ( أننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة ) وقد أورد ذلك الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى نشر النص الكامل للرسالة فى كتابه ( أكتوبر 73 السلاح و السياسة ) وقد قام كيسنجر بنقل هذه الرسالة فور وصولها له إلى جولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل كما تمت المحافظة على مطار العريش الذى أستقبل الجسر الجوى الأمريكى لنجدة اسرائيل ولم يتم ضربة طيلة المعركة . اقترح كيسنجر دعوة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إلى نهاية للقتال بين مصر وإسرائيل، والعودة إلى حدود وقف إطلاق النار عام 1967. وقد وافق الاتحاد السوفيتي على المقترح ولكن المصريين رفضوا ذلك . عند هذه النقطة قام كيسنجر بزيارة خاطفة إلى تل أبيب حيث أخبر الإسرائيليين عدم ممانعة الولايات المتحدة إذا رغب الجيش الإسرائيلي في التقدم وبالفعل في 16 تشرين الأول، عبرت قوات الجيش الإسرائيلي قناة السويس بما يعرف باسم ” ثغرة الدفرسوار” ، وتمت محاصرة الجيش الثالث المصري وبدأ السادات في إظهار الاهتمام بوقف إطلاق النار. أعلنت السعودية خفض الإنتاج بنسبة 15%، ومن خلال الأوبك تم رفع سعر النفط بنسبة 70% ليصل السعر إلى 5 دولارات و12 سنتًا لتحصد السعودية الأرباح.في التاسع عشر من أكتوبر اُضطرت السعودية لتفعيل حظر النفط بعد أن سبقتها ليبيا، لتفادي حالة الغضب التي سرت بين الجماهير العربية، حينما أقر الكونجرس الأمريكي اعتماد معونة عسكرية عاجلة لدعم إسرائيل بمبلغ 2.2 مليار دولار. قام الرئيس السوفيتي (بريجنيف) بدعوة كيسنجر لزيارة موسكو للتفاوض على اتفاقية.وتفتق ذلك عن اقتراح أمريكي- سوفيتي لوقف إطلاق النار يعقبه محادثات سلام، صدق عليه مجلس الأمن الدولي يوم 22 تشرين الاول في القرار 338.وبعد ذلك،. رفض الإسرائيليون التوقف.وفي 24تشرين الأول ، بعث بريجنيف برسالة على الخط الساخن إلى نيكسون اقترح فيها إرسال الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي قوات إلى مصر لتنفيذ وقت إطلاق النار.وهدد بريجنيف نيكسون إذا رفض الاقتراح قائلا: “سنكون في مواجهة الحاجة الملحة إلى دراسة مسألة اتخاذ قرار ملائم بشكل أحادي” ، هدأت الأزمة عندما تبنى مجلس الأمن القرار 340، والذي دعا إلى وقف إطلاق النار، وسحب كافة القوات إلى وضعها التي كانت عليه في 22 تشرين الأول ، ووضع مراقبين أمميين وقوات حفظ سلام لمراقبة وقف إطلاق النار.وفي هذه المرة، وافق الإسرائيليون على القرار.وهكذا، انتهت حرب 1973 .
بالنسبة لحظر النفط فقد كانت الية تطبيق الحظر مضحكة جدا فالسعودية وكما قال وزير النفط السعودي (احمد زكي يماني) ، كانت تطلب من ربان كل سفينة بترولية التعهد بعدم نقل البترول لدولة عليها حظر . وقد استمر الحظر (150) يوما . في تشرين الثاني عام 1973 تم زيادة نسبة التخفيض في الإنتاج إلى 25%، وفي كانون الأول من نفس العام تم رفع الأسعار بنسبة 70%، ليصبح سعر البرميل 11.5 دولار متخطيًا لأول مرة حاجز العشرة دولارات. بعد الحرب طلب كيسينجر من شاه ايران أن يطلب من الدول المنتجة بالخليج زيادة الاسعار.وعندما حاول أحمد زكي يماني وزير النفط السعودي أثناء حرب اكتوبر الاستفسار عن اسباب زيادة الأسعار كانت إجابة الشاه له “اطلب من مليكك أن يسأل كيسنجر فعنده الجواب .” وكان من نتائج الحظر المزعوم :
تُوج فيصل بين العرب زعيمًا وقائدًا لمعركة البترول.
تم رفع أسعار النفط من 3 إلى 12 دولارًا للبرميل، وشكلت تلك الطفرة للسعودية والخليج بداية تكوين ثروات واسعة.
أثبتت السعودية للأمريكان أنها حليف يمكن الاعتماد عليه.
بالنسبة للولايات المتحدة فقد كانت المستفيد الأكبر من الحظر البترولي احيث كان إنقاذ لاقتصادها
تحسن موقف الدولار مقابل تراجع عملات أوروبا واليابان،
أدى ارتفاع سعر البترول كنتيجة للحظر إلى إضعاف الاقتصاد في أوروبا واليابان لصالح الاقتصاد الأمريكي
سجلت أرباح الشركات البترولية الأمريكية معدلات قياسية للأرباح لم يسبق لها مثيل بشكل ربما نشعر به حينما نعلم ان نصيب العرب عام 1974 كان 60 مليار دولار أما أرباح الشركات الأمريكية كانت 420 مليار دولار فقط في التكرير و التسويق بخلاف الارباح الاصلية في النفط نفسه.
انتعش الاقتصاد الأمريكي نتيجة الودائع والاستثمارات العربية الهائلة التي انهالت على البنوك والشركات الأمريكية.
تم تجميد قوانين البيئة الخاصة بالهواء والماء السابق إصدارها، والتي كانت تمثل ضغطًا على صانع القرار ومشكلة للمنتجين للطاقة في الولايات المتحدة.
تشكيل سوق حرة في “روتردام”،بالإضافة إلى ظهور مضاربة محمومة على النفط في كل مكان.حتى أن الحمولات المشتراة كانت تباع عدة مرات وهي في طريقها بين مرفأ التحميل والمرفأ المقصود
استغلال شركات البترول الانجلو-أمريكية لاستثمارات بملايين الدولارات في حقول بحر الشمال المحفوفة بالمخاطر لجني فوائد عالية لم تكن ممكنة قبل تأمين خطة كيسينجر للحظر.
تمكنت (شركة مساعدة البلدية) المشكلة من تسعة بنوك هي تشيس مانهاتن، سيتي بانك، وبنك لندن-نيويورك للاستثمارات وبنك لازارد فريريز وبنوك أخرى ف برئاسة (ديفيد روكفلر ) من السيطرة على اقتصاد الولاية لتسديد مديونية البنوك.
حققت المؤسسات المصرفية في نيويورك ولندن وشركات النفط “الاخوات السبع” المتعددة الجنسية في لندن ونيويورك أرباحا هائلة . فقد حلت شركة إكسون محل شركة جنرال موتورز كأكبر شركة أمريكية في اجمالي الارباح بحلول ١٩٧٤ تبعتها “اخواتها” من أمثال شركة موبيل ، تكسكو، شيفرون وجلف.
الحجم الأكبر من أرباح دولارات أوبيك تم ايداعها في بنوك لندن ونيويورك الرئيسية تحديداً البنوك التي كانت تتعامل بالدولار وتتعاطى تجارة النفط الدولية. تشيز مانهاتن، سيتي بانك، مانيوفاكتشرر هانوفر، بنك أميركا، باركليز، لويدز، ميدلاند بانك، كلها بنوك تمتعت بالمكاسب والأرباح الفجائية الناتجة عن صدمة البترول.
مما تقدم نكتشف ان ما سوق لنا على انه المثال الأعلى للتضامن العربي والاخوة العربية التي جعلت اقوى دول العالم ماهو في الحقيقة سوى سيناريو مرسوم بحرفية عالية من اجل تحقيق مكاسب الشركات الكبرى .