النجف من أمهات المدن العراقية القديمة، النجف وبابل والحيرة والكوفة لدات وأتراب وأنداد في التاريخ؛ والنجف من كبريات المدن العلمية في العالم الاسلامي، تلك المدينة المقدسة القابعة على خاصرة صحراء العراق الغربية، اجتذبت- بعلو مقامها جغرافيا، ورفعة أنوائها ديموغرافيا، وسمو مكانتها دينيا- اجتذبت أقلام ذوي الأفكار أو كادت، ليفيضوا على أحوالها من نمير أحبارهم فترتوي ألقا وفخرا. لذا تاريخها وما يكتب عنها يرتفع الى علوها ماهية وموضوعا.
– ماضي النجف وحاضرها، أوسع وأشمل ما كتب عن هذه الحاضرة الدينية، ألفه الشيخ جعفر بن باقر بن جواد بن محمد حسن آل محبوبة الربيعي النجفي (1314- 1377هـ/ 1897- 1957م) مؤرخ وباحث ورجل دين شيعي عراقي مشهور بتأليفه كتاب ماضي النجف وحاضرها. الكتاب يترجم علوه أن قدم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في تقريظه، و الشيخ محمد رضا المظفر: أول ما واجهني وأعجبني منه تحريه لدقائق التأريخ عن مرقد الإمام ” ع ” وإن كان فيه من التكرار ما أرجو أن ينخله منه عند تجديد طبعه للمرة الثانية وليست هي بالبعيدة عليه. الدكتور علي جواد الطاهر قال: كتابه قيم، وإني لأبحث عن نسخة منه أستعين بها على ذاكرتي ومذكراتي”، وقال عنه الدكتور حسين علي محفوظ” وهو تاريخ يحتاج إليه المحقق والباحث والمتتبع والمراجع ولا يستغني عنه المبتدي والمنتهي.
يبدو لأول وهلة ان العنوان يقتصر على الجزء الأول- بحسب الدكتور عماد عبد السلام، بخصوص طبعة صيدا 1353هـ/ 1934م للجزء الأول، بيد أنه قال فيها: وخصصت (الجزء الثاني)منها بذكر البيوت العلوية والأدبية العلمية وآثارها القيمة من تصنيف أو تأليف في جميع الفنون. وهذا يفصح أن مشروعه مستمر في دراسة انثروبولوجية المجتمع التي لا ينسلخ عنها معامل التاريخ.
كتاب “ماضي النجف وحاضرها” اتسم موضوع الدراسة بالجدة والطرافة، وجاء العنوان متفردا، لم يُحَطْ به بحث من قبل، في ثلاث كلمات، استوعبت تاريخ الماضي وتاريخ الحاضر، وما بينهما النجف العاصمة الدينية بكل معانيها الطوبوغرافية والديموغرافية والسوسيولوجية، وهذا ما يعطيها قوة وفاعلية معرفية في الكتابة عن المدينة وما واجهتها من معاناة مجاورة البادية، ومحاسن مقاربة السواد، في خضم كتابات أحاطت المدينة تاريخيا وجغرافيا.
اقتبس منه الدكتور علي الوردي في كتاب “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” فيما يخص تاريخ النجف مجتمعها، في الجزء الأول والثالث والرابع فيما يخص النجف. وقال جعفر الخليلي: نقل الشيخ جعفر محبوبة عن “نهج الصواب” للشيخ عليّ كاشف الغطاء، وذكره أحيانا- بحسب قوله: اعتمدنا في ذكر المكتبات على كتاب “نهج الصواب في المكاتب والكتابة والكتاب” في جل ما نقل في “ماضي النجف وحاضرها” عن مكتبات النجف، ولعله حفظ غير مخطوطة من الاندثار بسبب استعمالها أو ذكر حيثياتها الموضوعية والمكانية.
ولما عد الخليلي العلماء المحققين الذين عنوا بالمكتبة والكتاب، وهم: الشيخ عليّ آل كاشف الغطاء، صاحب كتاب (الحصون المنيعة) المخطوط، وصاحب كتاب(نهج الصواب في المكاتب والكتابة والكتاب)المخطوط، كما عرف به أيضاً الشيخ محمّد السماوي، والسيد هبة الدين الحسيني، والسيد جعفر بحر العلوم، والشيخ أغا بزرك، والشيخ عليّ الشرقي، والشيخ كاظم الدجيلي، والشيخ محمّد رضا فرج الله، والشيخ جعفر محبوبة، وكوركيس عواد. قال: والتحقيق الذي قام به الشيخ جعفر محبوبة بنفسه للمكتبة العلوية، والذي أورده في “ماضي النجف وحاضرها” معتمداً على “نهج الصواب” وما استعرضه من الكتب المخطوطة التي أنفق من أجلها وقتاً طويلا في الفحص والتفتيش، ليعدّ من أهم المصادر الموثوقة في معرفة هذه المكتبة في تأريخها الأخير.
يكاد موضوع الكتاب يترسم من خلال العنوان في ذهن القارئ لأول وهلة أنه مختص في تاريخ المدينة، لكنه في الحقيقة يتوجه ببوصلته نحو تاريخ حضارة المدينة وتراثها من خلال خيط انتهله يجمع حبات فصوله وجواهر معانيه، ألا وهو الانسان في حراكه الانثروبولوجي، مع بيئته الاجتماعية معالم الابسمولوجيا والذات المعرفية، ولعل الدراسة كانت منصبة على النماذج المثالية للأسرات، التي تتشكل منها بصمة الأسرة، وما تصطبغ بها، ولذا المؤلف اشترط في هيكلية الدراسة على نجفية الأسرة، واشتهارها بالعلمائية، وحصر العلمية بثلاثة من العلماء فيها، وهذه اللازمة التي وضعها أخرجت عددا من الأسر من حوزة الدراسة ومسارها، كما أنها لازمة متغيرة وقلقة، تعتمد الشهرة الاجتماعية تارة وتمحص الباحث تارة أخرى، بخاصة في منظومة الزمن والحاجة الى إثبات الوجود، فبعض الاسر كانت- بالامس- علمائية، تصبح عملانية، ويصح العكس في زمانية الجيل او الجيلين؛ قد يتخلص منها الماضي بحكم الشهرة، لكن الحاضر قد يبتلى بها، فلذا يلجأ الباحث الى الاستقصاء والتمحص؛ في هذا المنحى التمس بعض الدارسين مسحة نقد للكتاب او بعض نقدات، على سبيل المثال:
ذكر علي الخاقاني: في ترجمة الشيخ محمد رضا ابن الشيخ محمود بن محمد بن ياسين بن ذهب (-1374/ 1955)، آل ذهب أسرة علمية هاجر جدهم ذهب من الظوالم من الرميثة الى النجف، فنزل في محلة المشراق، واشترى دارا واوقفها على ذريته، ولا تزال تعرف باسمهم. وقال: والغريب من صاحب كتاب ماضي النجف، كيف أهمل ذكر هذه الأسرة في الجزء الثاني كما أهمل غيرها، في حين نبغ منها عدة أعلام من فقهاء وأدباء وكتاب ، أمثال: الشيخ محمود ذهب المعروف في الأوساط العلمية، وأخيه الشيخ أحمد ذهب الفقيه الذي تنطق آثاره الخطية بفضله، والمترجم له وأولاده وأولاد أخيه.
يبدو لي من خلال لحاظ معاصرة بعضهم للشيخ محبوبة. انه لم يتوافق ذكرهم مع الشرط الذي وضعه الشيخ محبوبة أن يتوافر ثلاث من العلماء او الافاضل في الأسرة التي ينبغي أن تذكر، إذ أن بعض أسرة ذهب الذين برزوا في مجال العلوم الدينية كانوا شبابا في في وقت محبوبة، ولم يكن لهم عطاء معرفي يذكر؛ بينما تدفق عطاؤهم بعد عشر سنين في عصر تلميذه علي الخاقاني.
أما في قسم الأسرات النجفية العلوية، لم يقيده بوجود ثلاثة علماء او شعراء، وإنما اكتفى بالانتساب الى الشجرة العلوية، وحصرها في الحسنيين والحسينيين والموسويين، وهنا انبثق لدي سؤال عن وجود السادة الهاشميين في النجف، وهل أغفلهم الشيخ محبوبة، فاتصلت بالنسابة الشيخ عباس الدجيلي صاحب كتاب “العلويين”، فأجابني: انه لا يوجد في النجف من السادة الهاشميين الا أسرة كانت تقول بأنها من العباسيين، وهم آل الدروغي؛ وهنا التمست العذر للشيخ محبوبة على منهجه، بل راقتني دقته. ومن جهة ثانية إن تركه للقيد العلمي لدى العلويين يضعف معيارية القيد او اللازمة التي اشترطها لدى العاميين من النجفيين.
أما هيكلة الكتاب فقد قسم “ماضي النجف وحاضرها” الى ثلاثة أقسام: الأول عن حضارة النجف وتاريخها السياسي وما يتخلله من حوادث، والعمراني وما يتجلاه من تطور في العمارة سواء للحرم العلوي أو المؤسسات الدينية والمدنية معا، او ما شق من أنهار ومشاريع لتوصيل الماء الى النجف، وكان هذا جميعه في الجزء الأول من الكتاب. واضطلع القسم الثاني والثالث بتبيان الحياة الاجتماعية لمدينة النجف من خلال دراسة الأسرات العلمية وأنسابها وثقافتها المتجسدة في أبرز أعلامها، وميزاتهم التي كرستهم للصدارة وأهلتهم للسمو المعرفي، واستعرض نتاجاتهم الدينية والثقافية والأدبية؛ غير أن هذا المجال ينماز بسعته فلا مناص من تقسيمه الى عنوانين: الأول اختص بايراد الأسرات العربية العلمية والأدبية غير العلوية وآثارها، واحتوى هذا العنوان الجزآن الثاني والثالث، كما أفرز للعنوان الثاني، وهو الأسرات العلوية النجفية وما صدر عن أعلامها من نتاجات ونشاطات علمية أو ثقافية او سياسية، وفرزه الى ثلاث فرزات على أساس النسب: الأولى للحسنيين وشغلت الجزأين الرابع والخامس، والثانية للحسينيين، وقد تشغل جزأين او ثلاثة، والثالثة للموسويين- بحسب الدكتور علي حجي الذي عني بتحقيقهما كمشروع حالي.
امتاز منهجه في هذه الموسوعة بعدة نقاط: التعريف بالأسرة ونسبها وتسميتها، مكان الهجرة ومضاربها الأولى، أول من دخل من الأجداد الى النجف، ترجمة ما لا يقل عن ثلاثة من أعلامها حسب قدمهم الزمني ومكانتهم العلمية او الأدبية، ذاكرا وفياتهم وأحيانا ولادتهم، ما أنجزوه من مصنفات وشروحات ودواوين وتسميتها،
اتبع في المنهج أسلوب حروف المعجم في تصفيف الأسرات، منها: غير العلوية كانت (86) أسرة، ترجم لـ (756) من أعلامها العلماء والأدباء؛ فاشتمل الجزء الثاني على الحروف (أ- ط)، وضم (42) أسرة، أولها “آل أطيمش” وآخرها “بيت الشيخ الطوسي”؛ واشتمل الجزء الثالث على الحروف (ظ – ي)، وضم (44) أسرة، بدءا بـ “آل الظالمي” وانتهاء بـ “آل الشيخ يونس” والقسم الثاني للبيوتات العلوية، اشتمل الجزء (4- 5) على (18) أسرة من الحسنيين، بدءا بـ “آل بحر العلوم” وانتهاء بـ “بيت اليزدي”، ترجم خلالها لـ (63) من أعلامها؛ ويشتمل جزء الحسينيين على (72) أسرة، بدءا بـ “آل الأفطس” وانتهاءً بـ “الهمداني”؛ وأخيرا جزء الموسويين يشتمل على (48) أسرة، بدءا من “آل ابو الحسن (الصدر)” وانتهاء بـ “بيت الهندي”.
لم تأخذ الأسرات في ماضي النجف وحاضرها مساحات متقاربة، فمنها اسرة تشغل أكثر من 150 صفحة، ومنها صفحة أو صفحتين مثل ” آل فرج الله الحلفيين” و “آل الغراوي ، لكن أغلبها تجاوزت 4- 6 صفحات. يبدو هذا التنظيم لا تشوبه عاطفة القربى والصداقة، ولكن لحظت أنّ الأسرات التي حظيت برتبة المرجعية نالت حصة أكبر في عناية البحث. مثل: آل بحر العلوم ج4 من 87- 238، ترجم لـ (24) من أعلامها، وآل كاشف الغطاء ج3 من127- 210؛ وآل الجواهري ج2 من 99- 137؛ في حين آل محيي الدين ج3 من 300- 350؛ وآل الطريحي ج2 من 429- 472؛ بينما شغل آل محبوبة ج3 من 273- 299، تخللها ترجمته لنفسه من 281- 288. يبدو ان الكاتب كان يتوخى العدل والموضوعية، فلم يكتب عن أسرته بهدف التعظيم، في الوقت ذاته كتب عن أسر مشابهة لها بشكل أكبر، لعل معياريته كانت متمثلة بحجم الحياة المعرفية للأسرة ونشاطاتها، وقد تنطبق هذه الميزة على بيوتات المرجعية، مع ما تمازجها من لحاظ القدسية لها والتعبير عن منجزاتها.
وثق تاريخيا هجرة الأسرات الى النجف، فالعربية غير العلوية منها، على سبيل المثال، من بين (86) أسرة، نحو (70) أسرة هاجرت الى النجف في قرون الحكم العثماني: (17) أسرة في القرن 11هـ/ 17م، (21) أسرة في القرن 12هـ/ 18م، و(32) أسرة في القرن 13هـ/ 19م؛ في حين كانت الهجرة ضعيفة في القرنين السابقين: (2) أسرتان في القرن 9هـ/ 15م، و(8)أسر في القرن 10هـ/ 16م. عدا بضع أسرات قديمة منقرضة.
أما منهجه في الترجمة فإنه يذكر اسم المترجم له ونسبه ومكانته العلمية، وخلقه، وصفاته، وجهده المعرفي المتمثل بمؤلفاته، وإذا تنوعت يوردها بحسب العلوم والمعارف. اتبع في ترجمة الأعلام للأسرة الواحدة حروف المعجم، وليس على الشهرة والقدم، مثلا: الشيخ الطوسي محمد بن الحسن، يقدم أولاده عليه، وهما الحسن، ثم الحمزة. ثم أن التراجم متفاوتة بحسب طولها وقصرها، منهم من تنوف ترجمته على (36) صفحة، مثلا: ترجمة المرجع السيد محمد مهدي بحر العلوم (1212هـ/ 1797م) ج4، من ص 168- 225، بينما أقلهم لا يتجاوز السطرين او الثلاثة.
ثمة تفاوت آخر في عدد المترجمين للأسرة الواحدة، فقد اشتملت بعض الأسر على عشرات التراجم لأعلامها، تصل الى عشرات التراجم، نحو: آل الطريحي (46) ترجمة [2/ 439- 472]، آل كاشف الغطاء (36) ترجمة [3/ 126- 216]، آل الجواهري (28) ترجمة [2/ 99- 137]، و(26) ترجمة لآل بحر العلوم، بينما لم يزد عدد التراجم لأسرات أخرى على اثنين او واحد، مثل آل البراقي [4/ 241- 247] ترجم للسيد حسون المؤرخ فقط.
تجاوز حدود الترجمة التقليدية المرتكزة على النشأة العلمية والشيوخ والتلاميذ والنتاج العلمي والأدبي، إذ كان يتتبع الحياة الاجتماعية والسياسية او الاقتصادية للمترجم، مثلا: الشيخ عبد الكريم الجزائري، قال : “لهم مكانة سامية، وشأن رفيع في نفوس مواطنيه، وله اليد في القضية العراقية، وأحد المراجع والمستشارين فيها” [2/86]؛ والشيخ محمد جواد الجزائري [2/93] سجل له: تشكيل جمعية [النهضة] السرية، ومشاركته في الحرب النجفية [ثورة النجف 1918]، ونفيه الى الأحواز، واعتقاله في الحرب العراقية [ثورة العشرين]؛ والاستاذ عباس الخليلي، قال فيه: هو من رجال الثورة التي قام بها الحاج نجم البقال في النجف في قبال الحكومة الانجليزية [1918م]، وذكر اشتغاله بالصحافة وإصدار جريدة “الإقدام”، ونشره في المجلات الإيرانية والعربية: المقتطف والهلال والعرفان وسائر الجرائد… [2/236]. ولم يقف عند هذا الحد، بل يتابع مفردات الحياة الاجتماعية للمترجمين وتأثرهم وأثرهم في غضون بيئاتها.
في المقدمة ذكر الدراسات السابقة لبحثه عن النجف، وقوّمها، فمن المتقدمين : عبد الكريم بن طاووس (693هـ/ 1294م) في “فرحة الغري”، ومن المتأخرين السيد حسين البراقي (1333هـ/ 1914م) في “اليتيمة الغروية”، والشيخ محمد الكوفي (1339هـ/ 1920م) في “نزهة الغري”، قال: وهو عيال على البراقي، والسيد جعفر بحر العلوم (1377هـ/ 1957) في “تحفة العالم”، في آخرين لم يجعلوا النجف عنوانا رئيسا، بل ثاني اثنين أو أكثر، ومهما يكن انه تحصل من هذه المصادر أنها لم تسع النجف كمدينة ومجتمع، فقال -باختصار: “إنهم لم يستوفوا البحث”، وذلك بغية اعطاء سبب لتأليف كتابه، ومن ثم يمنح كتابه رفعة في الأهمية.
وظف أدواته البحثية على أنواعها، من: المخطوطة، والوثيقة، والفرمان، والسائل، والكتب المطبوعة، والمجلات، فضلا عن كتابة التاريخ الشفاهي المستقصى من المقابلات، واتباع عنصر المشاركة والمشاهدة؛ يكرس هذا التوظيف معنى الشمولية والتكامل في البحث جامعا بين أدوات البحث في الماضي وأدوات الحاضر.
ثمة مقدمات لمشروع ماضي النجف وحاضرها، انه تمخض فكرة الكتابة في موضوعات نجفية بصيغة مقالات في الجرائد المجلات النجفية واللبنانية كمحاولات لتجسيد مجتمع الكتاب متكاملا، فعلى سبيل المثال وقفت على مقال “من دفن في النجف من السلاطين والوزراء”، في مجلة العرفان الصيداوية [العدد : 7، 01 يناير 1935، ص711 -719] فانه يضمنه في الجزء الأول من كتابه.
قال الشيخ آقا بزرك الطهراني: «عالم متتبّع». ذكر الشيخ محمد رضا المظفر من ميزات جهد الشيخ محبوبة “الصبر على التتبع لالتقاط النوادر من تأريخ هذا المرقد المقدس، فلم شعث ما تفرق في الكتب والصحائف المطوية والصحف المنشورة”.
ظل عنوان التتبع ملازما للشيخ محبوبة حتى بعد طبعته الأولى [صيدا، عام 1353/ 1934] إذ حاول- من أجل أن يكون الكتاب وافيا ومتكاملا- إضافة جملة معلومات الى كتابه في الطبعة الثانية، قال: “بادرت الى طبعة ثانية، بعد أن أضفت إليه فوائد كثيرة ثمينة، ومواد تاريخية غالية، استفدتها من مراجعة الكتب التي لم تحصل لي من قبل، ومن بعض المجاميع الخطية التي حصلت باليد، ومن مناقشات بعض الأساتذة المطلعين”.
ثمة تساؤل في مجال التأثر، بمن تأثر الشيخ محبوبة في رسم عنوانه والكتابة فيه، من معاصريه الشيوخ واساتيذه؟ هل من شيخه محمد السماوي (-1369هـ/ 1950م) صاحب ارجوزة “عنوان الشرف ووشي النجف” التي أرخ فيها للنجف، وخص أسراتها بـ (70) بيتا؛ أو الشيخ محمد حرز الدين (-1465هـ/ 1946م) وهل أفاد منهم، ولم يشر لهم الا لمما؟
أما الشيخ السماوي، انه صرح بالتلمذة عليه والرواية عنه إجازة في كتب الرجال والأخبار والتاريخ والسيرة، فلي الحق الرواية عن أربابها بواسطة مشايخي: الشيخ مهدي المازندراني، والشيخ محمد محسن أغا بزرك، والشيخ محمد ابن الشيخ طاهر السماوي[3/ 288].
في مراجعة ترجمة حرز الدين قال الشيخ محبوبة: أدركته وهو شيخ كبير، إذا دخل الى الصحن المقدس العلوي التفّ حوله جماعة يتلذذون بحديثه، ويستفيدون من مجالسته… ويروي عنه إجازة كثير من الفضلاء، وتخرج عليه كثير من أهل العلم… من مؤلفاته كتاب “معارف الرجال” ذكر بعض رجال العلم النجفيين بصورة موجزة، استفدنا منه بعض الفوائد…”[2/ 166- 168]
في الإجابة على سؤالات: لماذا لم يتلمذ الشيخ محبوبة على الشيخ حرز الدين، أو يروي عنه إجازة، وقد قال: “ويروي عنه إجازة كثير من الفضلاء، وتخرج عليه كثير من أهل العلم.” وهو على مقربة مكانية بين الحويش والعمارة، وزمانية إذ توفي قبله بعشر سنين، وتوافق معرفي وعناية بالتاريخ، قال عنه: “متضلع في السير والتواريخ وأيام العرب ووقائعها، وحافظ لأخبار العلماء ووقصصهم”، فضلا عن أن حرز الدين عالم مجتهد له رسالة، قال: “طبعت في النجف سنة 1343هـ[/ 1925م]”.
يبدو لي ان الشيخ محبوبه كان مقلا في المشيخة، وأنه طبع الجزء الأول من ماضي النجف في 1353هـ/ 1934م، في حين لم يطبع معارف حرز الدين، ومن ثم التقى بحفيده الشيخ محمد حسين، وأطلعه على كتاب المعارف وكتاب النوادر، اللذين طفق الشيخ محبوبه يشير إليهما بخاصة في تراجم آل حرز الدين؛ مهما يكن حجم الاطلاع عل كتاب المعارف، هل يقتضي أن يقول الشيخ محبوبه: “من مؤلفاته كتاب “معارف الرجال” ذكر بعض رجال العلم النجفيين بصورة موجزة، استفدنا منه بعض الفوائد”، هل يقصد التقليل من قيمته في الموضوع والمنهج؟ أستشف انه لم يطلع الا على يسير منه أولا، وأن حرز الدين ذكر كثيرا من النجفيين وأحوالهم بمنهج قريب منه منهج محبوبه في الترجمة.
كانت- على سبيل المثال- ترجمة حرز الدين للشيخ عبد الحسين الأعسم (-1246/ 1830) أوفى من ترجمة محبوبه، دليلنا ان محبوبة قال: “قال في معارف الرجال: شاعر أديب وكامل أريب، سريع البديهة، الى آخر ما قال…”وهنا أعطى معلومة منقوصة، في ترسل حرز الدين في ترجمته؛ ثانيا: إن محبوبة قال في كتاب الأعسم “ذرايع الافهام في شرح شرائع الاسلام” قال فيه: “استوفى فيه كتاب الطهارة- فقط- في ثلاث مجلدات” [2/ 29] بينما قال حرز الدين: ” فقه استدلالي مبسوط بدقة وتحقيق في ثلاث مجلدات. الأول ينتهى بالأغسال، والثاني بالدماء، فرغ منهما (1239هـ) وبدأ في الثالث بأحكام الأموات وينتهي بالنجاسات، فرغ منه (1243هـ)” [معارف 2/25]. وهذا التفصيل في المنهج والهيكلة، وذكر التواريخ، أوفى من الاختصار عند محبوبة الذي اتهم حرز الدين بالإيجاز، فضلا عن ذلك ان شيخه أغابزرك أورد ما ذكره حرز الدين من تفصيل[ذريعة 10/ 23]. وفي ترجمة الشيخ محمد حسن سميسم (-1342/ 1924) ذكر محبوبة [2/350] ما قاله حرز الدين [2/ 243] عن معاصره من شكوك حول شعره وأنه كان يستعين بالسيد باقر الهندي وأخيه رضا الهندي، وبخاصة القصيدة التي استحسنها الحبوبي، وقال: “سمسمية عليها فلفل هندي”، ولكن محبوبه عقب فقال: لذلك هذا في بدء أمره وبعد ذلك قوى واستقر، في معرض المقارنة مع حرز الدين نجدها ترجمة ضعيفة لقول الثاني وموجزة، فقد أبدى حرز الدين رأيه” أقول: الانصاف أنه مستقل في النظم ، قوي في الأزمنة الأخيرة، وقيل في بدء أمره كان يعرض شعره على أهل الفن، وقد يبدل الناقد الشطر او البيتين”.
من معالم التحقيق والتتبع عند الشيخ محبوبة أنه كان يقوم بعض مصادره، منها: قال العلامة الشبيبي: كانت لآل قفطان مكتبة ثمينة في النجف، يرجع إليها طلبة العلم والأدب، وكان إنشاؤها مما تقتضيه طبيعة مهنتهم الوراقة، وعني آل قفطان بالأدب والتاريخ والفنون، وتمتاز مجاميع آل قفطان باحتوائها على تاريخ الحوادث والوقائع في العراق في القرون الثلاثة بعد الألف للهجرة… ردّ عليه الشيخ محبوبة: أقول: لم يوجد مما قاله معالي الشبيبي عن مجاميع آل قفطان شيء، ولم نقف عليه، ولا سمعنا- على كثرة التتبع- بمجموعة لهم بهذا الشأن، وإنما الموجود الكتب التي نقلوها من السواد الى البياض”[3/ 96]. هنا يجدر السؤال، هل تتبع محبوبة مذكرات الشبيبي؟ التي تجوس مجالا حيويا من تاريخ النجف، والتي ينبغي ألا تغفل بالنسبة لمحبوبة في موضوعه، والأكثر من هذا توجه إليه سهام التهمة انه أخذ منها دونما ذكر لصاحبها. في الحقيقة عرضت قسما من نصيهما عن ثورة 1918 على منصة المقارنة، فوجدت انه يوافقه أحيانا ويخالفه أخرى، لكن على الأغلب أنه اطلع عليها.
كان حريا بالمؤرخ المتتبع الذي رصد مقالة الشبيبي معاصره وقوّمها، أن يتتبع أحداث محشوة في جسد التاريخ من الحلم والرؤيا والخرافة، والتي يطلق عليها ميثيولوجيا، هنا نقل الشيخ محبوبة قصة “مرة بن قيس”، عن كتاب الشيخ جعفر النقدي (1370/ 1951) بسنده: ان مرة بن قيس كان رجلا كافرا، متغلبا على قومه، الذين فقيل له: إنَّ عليَّ بن أبي طالب قتل منهم ألوفًا، فسولت له نفسه يهاجم النجف، ويهدم الروضة العلوية، وأراد ان ينبش القبر المطهر؛ فخرج من القبر إصبعان، كأنّهما لسانا سيفه ذي الفقار، وضربت وسْط اللعين، فقُطع نصفين، صارا حجرين اسودَين، وظلا في الطريق مبولة للحمير حتى القرن 10هـ/ 16م فسرقهما بعض المعاندين.
ولقراءة المشهد: إنّ هذه الشخصية، وقد حددها المتأخرون في القرن الرابع الهجري، لم أقف عليها في القرون الإسلاميّة، عدا شخصيات جاهليّة، تحمل هذا الاسم، نحو: مرة بن قيس بن عيلان؛ مرة بن قيس بن عدي؛ مرة بن قيس بن عاصم المنفري. أو أسماء تمثل الأجداد في النسب، نحو: بني سهم بن مرة بن قيس؛ بني مرة بن قيس من بني لؤي بن غالب.
من الواضح، انَّ هذا الحادث أقرب الى عصر ازدهار التأليف عند الشيعة الإماميّة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، ويمسّ أكثر عصر الطوسي (460/ 1068) الزاخر بالحركة العلميّة والتصنيف في النجف، غير أنه لم يذكره؛ بل هو قريب من مؤرخ الغري في القرن 7/13، ابن طاووس، ولم يذكره في “فرحة الغري”، وكذلك لم يذكره المجلسي (1111/ 1699) في كتابه الجامع “بحار الأنوار”.
يبدو أنّه من نتاجات عصر الخوف والترقب والحصار، إبّان الهجمات الوهابيّة، أو مرحلة ما بعدها، زمن إعادة قراءة الأحداث بلغة المنتصر، ولفّها بهالة من القَصَص الأسطوريّ؛ ليبثَّ الطمأنينة في مجتمع المدينة، ويؤكد عنصر حماية المقدّس في تجربة سابقة، شبيهة بلحاظها البيئيّة والتطوريّة مع الهجمات الوهابيّة.
ثمة حدث اختلف المؤرخون في قراءته وهم من المعاصرين له: بعد بضع ساعات من مقتل الماريشال في 1918، قُتل في سوق المشراق شرطيان على يد أولاد الحاج سعد راضي، وكان الكابتن بلفور في بحث وتجوال في المدينة عن المهاجمين، وهكذا تجلَّى الأمر للسلطة بأن الفاعلين من داخل المدينة، بعدئذ أقنعه زعماء المدينة، وفي طليعتهم السيد مهدي السيد سلمان أن الثوار ليسوا من المدينة-بحسب رجل الدين الشيخ محبوبة، بينما كمال الدين المشارك المشاهد نظر إليها كسياسي يعرف الانكليز، فقال: استخدم بلفور دهاءه وحنكته وجرأته بأن تظاهر في نفي التهمة عن مدينة النجف، وأن الهاجمين عصابة غريبة عن النجف، ثم دار في الأسواق، وقابله السيد مهدي السيد سلمان فأقره على ما تظاهر به، حتى نادى المنادي بأمر بلفور بأن يفتح الناس حوانيتهم ويزاولوا أعمالهم، فحدثت مقتلة شرطيين في سوق المشراق؛ في حين لم يذكر الشبيبي هذه الفذلكة ومحاولة الاقناع الساذجة التي ينتجها الزعامات المتسالمة مع المحتل في مجتمع محاصر يقبل الإشاعات المبيضة لوجه المحتلين، والمحسنة لصفحة المتسالمين، فقال: عندما وصل بلفور من الشامية أعلن الحصار ومنع الخروج والدخول، فأوجست العصابة النجفية بالشر فقتلوا اثنين من شرطة الانكليز في سوق المشراق واطلقوا النار على الفرسان خارج السور؛ ويبدو أنّ القوجاني الذي كان حاضرا في النجف وافقه الرأي، فقال: إن تقدم أربعة من المتطوعين لتنفيذ العملية… بينما ذهب الآخرون ودخلوا النجف. مهما يكن من رأي فرض الحصار عليها وأحكم قبضته.
مهما يكن من رأي، فإن هفوات العالم المتتبع محبوبة تعد قليلة ولا تشكل منهجا، بل –على الأصوب- ان أغلب قراءاته كانت متسمة بالموضوعية، فهو يبقى في واعية النجف أوعى من كتب عن المدينة ومجتمعها.