18 ديسمبر، 2024 11:28 م

قراءة منهجية
تفردت مدينة النجف باحتضانها قبر أمير المؤمنين وأول الغرّ المطهرين علي بن أبي طالب (ع)، فضلا عن كونها حاضرة دينية منذ القدم، ألقت فيها الديانات الإبراهيمية تجلياتها التاريخية، حتى استقرت على خارطتها حضارة الإسلام، وأضحت أنواؤه تسري في تضاريسها أنوارا، ونارا يجتذب سناها الناظرين، ويعتز بها كل قادم وقاطن، ويفخر بها كل مودع بما ملأت جعبته من الذكريات وكنوز المعرفة، وفي واديها تلقى عصا الراحلين، ويستقر فيها النوى سلاما؛ فهي- في كل الأحوال- عاصمة حضارة دينية ، تحفل بالتعددية والتنوع في مجالات الحياة الاجتماعية ومفرداتها اليومية.
كادت النجف، تلك المدينة المقدسة القابعة على خاصرة صحراء العراق الغربية، وبحكم ارتفاعها عن سطح الأرض، مرت أو كادت تمرّ بظروف صعبة في مواجهة مشكلة المياه، ومعاناة توصيلها عبر الحقب التاريخية، ولا شك إن النظم السياسية المتعاقبة كان لها دور في بسط قضية المياه او قبضها.
من هذا المخاض طفق موضوع هذه الدراسة التي بين أيدينا، والذي اضطلع به الاستاذ تحسين عمارة، المهندس الاستشاري والمؤرخ، وقد محض في دراسته معايير الهندسة بمعارف التاريخ في بودقة، اتجهت بوصلتها نحو عنوان يكاد يحمل الهمّ النجفي الذي تخزنه الذاكرة، ألا وهو “عطش النجف” ليجسد معاناة مدينة اهتزت وربت من دون ماء ولا شطآن.
هنا انبثقت إشكالية الدراسة المتمثلة بماهية المحاولات التاريخية لإيصال المياه عبر التضاريس الطوبوغرافية لسطح الأرض، والطبقات الجيولوجية؛ بيد ان أغلب تلكم المحاولات- على الرغم من جديتها- لم تحقق نجاحا، لعلو المدينة حوالي خمسة وستين مترا عن سطح البحر.
ومن هذا المفهوم تتجلى أهمية الدراسة التي نهضت بمعالجة الأسباب والآليات التي أحاطت تلكم المحاولات، سواء كانت جغرافية أو تاريخية؛ وجاءت ممعنة في مجال الجغرافية في التمحيص (طوبوغرافيا) في تضاريس النجف وسمات أرضها، (جيولوجيا) في طبقات أرضها، وتوصيف مصادر المياه حوالي المدينة، وموارد بحر النجف؛ وفي مجال التاريخ أحاط علما بالملوك والوزراء والأمراء حسب دولهم، والعلماء والوجهاء من ذوي الثراء حسب بلدانهم، في تجاربهم الخلاقة لتوصيل المياه الى المدينة، فضلا عن دراسته طبيعة مشاريعهم ونقاط قوتها أو ضعفها، والمشكلات التي مرت بها. ومن هذه المناحي الفكرية تشكلت الدراسة في هيكلية اشتملت على بضعة عشر فصلا.
اتسم موضوع الدراسة بالجدة والطرافة، وجاء العنوان متفردا، لم يُحَطْ به بحث من قبل، وهذا ما يعطيها قوة وفاعلية معرفية في الكتابة عن المدينة وما واجهتها من معاناة وإضهاد كبيرين، في خضم كتابات أحاطت المدينة تاريخيا وجغرافية، وذكرة مشكلة التوصيل المياه، لكنها لم تخضع تلكم المشاريع في معرض الدرس والتحليل، بل كان توصيفها لا يتجاوز الملامح التاريخية
تميز منهج الدراسة في تحديد عينة البحث، ألا وهي المياه في المدينة، وأحاط بتبيان مدخلاتها ومعطياتها، معرجا على المحاولات التي عزمت على توصيل المياه الى المدينة ونتائجها. واتبع التوصيف التاريخي، مقترنا بالتحليل ومناقشة الآراء السابقة، فجاء مزدانا بحوالي عشرين مناقشة، خرج منها بنتائج تتوافر فيها الجدّة والأصالة.
وظف في توصيفه تراجم أصحاب مشاريع توصيل المياه الى المدينة من الملوك والأمراء والوزراء والعلماء والوجهاء، ليعطي صورة واضحة عن متانة تلكم التجارب وأثرها على الحياة الاجتماعية؛ كما صور ما يحيط بقضية المياه في النجف في توصيف آلية توصيل المياه الى النجف عبر تلكم المشاريع، فضلا عن تبيان معالم الأصناف والمهن المرتبطة في الماء من: الملاحة والملاحين، والملاية والملائين، والسقاية والسقائين.
اكتنزت الدراسة بالصور الآثارية و التراثية لمعالم المدينة، والمناحي الجيلوجية والطوبوغرافية، وخرائط للمشاريع وفق مقياس الرسم الهندسي، وهذا ما يوصل الدراسة الى علو البراعة والطرافة.
تنوعت مصادر الدراسة ومراجعها، وبلغت ما يربو على 350 كتابا، وازدانت بالمخطوطات والمراجع العربية والمترجمة والأجنبية، فضلا عن البحوث والدراسات والمقالات في الجرائد والمجلات.
خرجت الدراسة بنتائج قيمة، منها التاريخية التي ثبتت حقيقة المشاريع على الأرض ومديات انجازها، ومنها العلميّة التي رسمت خارطة مفعمة بالدلالات للمياه في المدينة وحواليها؛ فضلا عن المقاربات الاستشرافية التي تصبو الى التوسع بمثل هذه الدراسة في المسار الأكاديمي.