17 نوفمبر، 2024 11:29 م
Search
Close this search box.

كتاب : سدنةُ الأرض !

عجيبٌ أمرُ بريطانية العظمى، تضع ثقتها الغالية في واحد من شبابها لم يتجاوز الثلاثين، فتجعله مديراً لمتحفها البريطاني، ومن تجواله اليومي في أروقة المتحف، يكتب لنا هذا الكتاب الفذ، وهذا الأطلس الحضاري الفريد الذي يقول ببساطة: أنتم موجودون في كل ما تركه لنا الأجداد الطيبون، من ثلوج ألاسكا، وحتى صحراء التتار. إنه تاريخ البشرية. كان السؤال الذي واجه الناس منذ القدم بسيطٌ جداً: لماذا توجد الأشياء، وكيف جاءت من العدم؟ ننظر إلى الجبل، إلى القط هناك، إلى القمر، إلى صورة مارلين مونرو، أو حتى إلى أصابع أيدينا، فنقول: ياه! وتلك هي بداية المعرفة. بدأت الحياة في أفريقيا، حيثُ صنع أجدادنا وآباؤنا الأولون من الحجر أول سكين لقطع اللحوم والأخشاب. ومن هنا بدأ اعتمادنا الأول والأخير على الآلة، وهي كل ما نصنعه، ويفرقنا عن الحيوان. وهذه القدرة على التصنيع البدائي هي التي جعلتنا نتكيف مع مختلف الظروف والأجواء، وجعلتنا نتوزع على أرض الله الواسعة، من أفريقيا السوداء إلى جزيرة العرب السمراء، ومن هذه إلى أوروبا البيضاء وآسيا الصفراء. حدث هذا قبل أربعين ألف عام ويزيد. عصرٌ جليدي جعل المحيطات تنزل دون اليابسة، فظهر جسرٌ بين سيبيريا وألاسكا، وصل به الجدود إلى الأمريكتين، وتوزع الناس شيعاً وأحزاب وديانات. روضوا الخيول البرية أولاً، لكنهم تركوا عنجهية النفس الأمارة بالسوء، ونلاحظ هنا إنها محكومة بقانون يقول إن السَلَخية هي علّةُ الانضمام. إنتبهوا إلى هذا القانون، رجاءً، وإفهموه، فهو المفتاح.
يأخذنا الكتاب إلى آلاف السنين التي مرّت لنرى الطريقة التي صنعنا بها الدنيا، ثم كيف صنعتنا، وماذا صنعت منا. هنا يفتح الكتابُ الشفرات المغلقة التي تركها آباؤنا فيما صنعوه من أشياء، وما قالوه لنا في تلك اللحظات الحرجة من التاريخ: لا تخافوا، لا تخافوا، إنه اليسر بعد الشّدة، وهذا ما نطلق عليه اليوم كلمة شعر. تعالوا معنا إلى ص 20، ما هذا؟ إنه التمساح الخشبي. ولماذا؟ لأنه مقدس. ولماذا؟ لأنه جبّار. وما هذا في ص 98؟ إنه صندوق خشبي من أرض أور، مطعّم ٌ بالفسيفساء. وماذا يقول؟ يقول إنني مفتاح اليوم للعراقيين ومستقبلهم، ذلك لأن الآثار الباقية والسياسة هي مثل المدن والرفاهية، تبقى شديدة الارتباط، لا انفصام لإحداها عن الأخرى. حسنٌ، قولوا لنا بالبسيط كي نفهم. هو لوح فسيفساء يمثل الوليمة التي أقامها الملك، هل تروه، إنه ذاك الذي يرتدي الجراوية في الوسط. أما الباقون فهم رعيته، يحملون ما لذّ وطاب من السمك والنذور. تلك هي الرفاهية. وما هذه في ص 90؟ إنها رقمٌ بابليٌّ، عبارة عن إيصال تسلم وتسليم. وما البضاعة فيه؟ البيرة. وما هذا في ص 96؟ إنه رقم آخر من نينوى. ها نحن مع أعظم اختراع. إنه الكتابة المسمارية. وماذا فيه؟ إنه يشرح لنا ببساطة قصة الفيضان الأول، فيضان جدنا الأول نوح.
هكذا نمضي في الكتاب فنقلّبُ  صفحاته التي تقارب الألف، صفحة بعد صفحة. خبراً بعد خبر، وصورةً بعد صورة. ما هذا، ص 479؟ إنه إناء من الصخر، محفورٌ عليه ما يلي: كرم حقه نهايتي وقدر! وماذا تعني؟ تقول: لا حدود لكرم الله. وما هذه في ص 634؟ إنها صورة رسمها الفنان هوكني، تمثل رجلاً مع رجل. الاثنان عاريان على الفراش، وهي بداية الحركة المثلية الحديثة. جميل، والله.
الصورة الأخيرة: بطاقة ائتمان مصرفي، من دولة الإمارات العربية المتحدة، تليها صورة بطارية المستقبل التي اخترعها الصينيون حديثاً، تشحنُ تلقائياً من الفضاء الخارجي.
كتابٌ من أروع ما قرأت اليوم، أعرف به أن الأوربيين يعرفون تماماً أين يضعون أموالهم، أما نحن العراقيين فبأيدينا مخطوطاتنا، ندور بها على الخلق، ولا أحد يشتريها منا بفلس. هكذا ضحك علينا الأوربيون فجعلونا نصرف أموالنا على حديد قالوا إنه المدفع العملاق، ثم أحرقوه. وهكذا أحرق الغزاة الجدد المكتبة الوطنية في بغداد، ولم يتركوا لنا سوى العنقاء.
إقرأوا الكتاب، وسيقول لكم مباشرة، بلا لف ولا دوران: أنتم العراقيون أصلُ الحضارة، لكن متى تتحدون؟

Neil MacGregor, A History of the World in 100 Objects. New York: Penguin, 2011

أحدث المقالات