8 أبريل، 2024 4:19 ص
Search
Close this search box.

كتابُ التأملِّ في الموت

Facebook
Twitter
LinkedIn

قال أبيقور الحكيم قديماً إن الموتَ لا يعنينا. فما دمنا أحياءٌ، فهو غير موجود. وحين يأتي إلينا، لا نصبح موجودين. أما حكيمنا أبو نؤاس، فقال: وما الناسُ إلاّ هالكٌ وابنُ هالكٍ، وذو نسبٍ في الهالكين عريقُ. واضحٌ أن الكلام في صاحبتنا الأرض، هل هي ترابٌ، أم طستٌ من دماء العاشقين، وجراح القديسين العظام؟ ذلك هو التأمل، فالشاعرُ كالنهر الساقط من أعالي الجبل، يتلألاءُ ثم يختفي. يتقافز فرحاً، ثم يعلو منتصراً في الوادي السحيق، أو يبطئ في المرج، وقد يمر ببابنا متهللاً في طريقه إلى البحر العظيم. وهذا هو موضوع كتابنا الحديث اليوم، “صباحُ الكاياك”، إذ غالباً ما تأتي الأحزانُ جماعاتٍ، فنعزي النفس أنها ستتركنا كما أتت، بلا سابق إنذار. نصحو يوماً لنجد أن الحزن قد ذاب تماماً. لكن الأمر محال، فقد زارنا الحزنُ ليصبح ضيفنا الدائم، الثقيل. وكتابنا تأملٌ في هذا الزائر المنتظر، صاحبه أستاذ في الجامعة، تموت ابنته البكر فجأة، فيهجر الأشياء من حوله، ويذهب إلى بيت الابنة الثانية، هناك بالقرب من بحيرة بينامان. عند الفجر، يترك الرجلُ الأحفاد نياماً، ويحمل زورقه الهندي الضيق ليجذّف في مياه البحيرة الصاحية مع الفجر. تنثالُ الكلماتُ مع المياه الدافقة. تأتي مرةً خفيفةً، عذبةً كزخات المطر في الربيع. وتأتي أحياناً عميقةً، مخيفةً كلجّة البحر العمياء. لكن المؤلف يعرف تماماً كيف يحول الحزن إلى قوة إنسانية دافعة. لا عدو، أو صديق غير الذي تخلقه أفكارنا البيضاء أو السوداء. والناس لا تسلك الطريق باتجاه واحد على الدوام، إذ لا بد من الانحراف هنا، أو هناك. أما لماذا، فتلك هي الحياة، وأجمل صورها حركة هذا الزورق الهندي الضيق المصنوع من خشب الزيتون.
المؤلف هنا غير مقطوع عن العالم حوله، فهنا الفتاة التي رآها في معسكر اللاجئين في تايلاند، وألئك المرضى الذين صادفهم في مستشفى بيروت للأمراض العقلية، كذلك أبناء التوتو، والهوتو. أطفال أبرياء بلون الأبنوس، طحنت آباءهم الحروب، ففروا إلى تنزانيا. هنا تشتد الصور، وتأتي سوداء قاتمة من نيران الحروب. يضعف الإيمان، ويفقد المؤلف السيطرة على الكلمات، ذلك أن للكلمات حدوداً يحترق بها سنُّ القلم. ها هو المؤلف يحوّلُ الدفة. يرفع المجذافين، ويمضي بنا في رحلة بحرية مع الملك لير، وهمنغواي، وأودن، وملفيل. تسقط كلمات أودن علينا كحبّات المطر. من هؤلاء من يرى الحياة بعيون سود، ومنهم من يرسمها بألوان زاهية، وهذه طبيعة الأدب الرفيع. لكننا ما زلنا مع المؤلف على السطح، لم نبحر عميقاً في البحر. لقد أعاد المؤلف ذكرى ابنته المتوفاة بالكلمات، وها هو الكتاب قد شارف على نهايته، وستعود الذكرى إلى الانطفاء. هنا فقط، يرسم المؤلف خاتمة سمفونيته العميقة بالكلمات. ها هو يشير بابتهاج إلى هذا الخليط المتنافر، وإلى تلك الوحدة التي لا تتجزأ والقائمة في أعماقه. ما القبح والجمال، وما الضياء والظلام، وما الخطيئة والطهر، غير أمور متنافرة ظاهرياً، وهي في حقيقتها متداخلة تماماً. يقول المؤلف متسائلاً:
لا الفن يصنع الحياة. لا التجارب، ولا حتى الموت يصنعانها. ما الذي يصنعها إذاً؟
لا يصنع الحياةَ غير صاحب الحياة. إنه الحُبُّ!
ها قد انتصرت الكلمات، وغنّى المؤلفُ انتصاره الأكيد.
Roger Rosenblatt, Kayak Morning. Reflections on Love, Grief, and Small Boats. Harper Collins

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب