23 ديسمبر، 2024 8:27 ص

(كان هناك) بين العرض والتأويل

(كان هناك) بين العرض والتأويل

نقول عنه، هو سليل المسرح العراقي يوم كان زاهيا، وسليل مدينة مباركة بأهلها، يجمعهما جسر من التناغم والتكامل، ومنهما إستمد خطوته اﻷولى ليضعها على طريق من الثبات والثقة. من هناك ستبدأ رحلة سالم، وسالم هذا سيمثل الشخصية الرئيسية والمحورية في رواية الصديق محي الإشيقر (كان هناك)، الصادرة منذ ما ينيف على العشرين عاما، ومن مغتربه، بلاد الشمال البعيدة، يوم حُمل كغيره من ضحايا العالم الثالث على راحة من الطمأنينة، بعدما وُصدت أبواب ذي القربى ولم يكن لنا وله وقتذاك غير بلاد الثلج والنفوس الطيبة، فيا لجمالها وجمال أهليها. كان قد كتب سرده اﻵنف بين مدينتين، تقاسمتها مالمو السويدية، مكان إقامته، واﻷخرى كوبنهاغن، حيث اﻷحبة واﻷصدقاء والندامى. ويبقى السؤال شاخصا: هل سيصل سالم قرص الشمس، إذ هي وجهته ومبتغاه؟.
وقبيل الشروع في مشواره، وصل مسامعه وعلى حين غفلةصوتا رخيما، هادئا، متماسكا، ينم عن خبرة ودراية بمتاعب السفر وعثرات الدنيا وما يحيط بهما، انها إحدى الوصايا وأظنها على غاية من اﻷهمية، إذ قيل له وبإيقاع يشبه التعويذة: عليك يا ولدي أن لا تكون وحيدا في ترحالك البعيد والإضطراري، فالطرق ليست كلهاسالكة بالحب. لذا ونزولا عند تلك الوصية ووفاءا لها، قرر سالم أن يأخذ معه إرث مدينته وجرعات من الصبر وأضمومة من صفاء الروح، ليحفظها في إحدى زوايا القلب، دون علم الرقيب، الرابض على حدود الوطن وما يفترضه من نوايا مخبئة.
تحولت أرض السواد سوادا وجفَّ ضرعها، وتمرها الباسق منذ بدأ الخليقة لم يعد يُشبع اﻷبناء، ونهراه لم يلتقيا منذ دهر ولن يلتقيا ما دامت الأرض والسماء ليست لنا. في يوم كهذا من أيام القحط والجدب السياسيين وما أضيف لهما من سبي منظم، طال الحرث والنسل، والذي ما إنفكت الدولة وأجهزتها تسلطه وبفخر على (أبنائها المشاكسين) حسب أعرافها وقوانينها، نقول في ذلك اليوم النحس خرج سالم من زقاقه، حيث وُلِدَ وكبر وحيث سيمضي الى مغتربه، ليقضي هناك أكثر من نصف عمره، تاركا ورائه ليالي العشق وحوارات السياسة الساخنة.
قبل أن يواصل مسراه، توقف طويلا بمواجهة إحدى الحضرتين، تذكَّرَ يوم دخوله أحد المرقدين بصحبة أمه وهو ماسك بذيل عباءتها، عملا بوصيتها حين كان صغيرا. راح يسترجع ما حدث له في ذلك اليوم وبما لم يبح به ﻷحد حتى في كبره. ففي يوم كهذا من أيام الحزن وإستحضار التأريخ، وبينما كانا يؤديان سوية طقوس الزيارة الكبرى، غابت عيناها لبرهة خاطفة بفعل التزاحم والتدافع ومن قبلهما التهدج، ليفلت الصبي من بين يديها. وقبل ان تدخل في فصل من النواح وما يتبعه، وإذا بسالم يظهر وعلامات وجهه تنذر بفرح غامر وبعد أن نجح في إختبار العودة اﻵمنة الى أمّه ليشبكها بقوة، خشية إنفلاته مرة أخرى، حتى سألته: كيف إهتديت ووصلتني؟ لم يحترْ جوابا، فببداهة العارف ردَّ عليها: أترينَ يا أمّي تلك المآذن العالية والمزدانة بماء الذهب والحب؟ فهي وقلبكِ دليلي اليكِ، فما كان منها الاّ أن تحتضنه ثانية حتى إلتصق بشغاف القلب. ومنذ تلك الواقعة و(الولد) راح يجيد لعبة اﻷمكنة والإتجاهات، وستتحول فيما بعد الى ذخيرة لا يستهان بها، ليبان تأثيرها في ما بعد عند التحاقه بالثورة الفلسطينية، فمنذها لم تنقصه النباهة ولا دقة الملاحظة، فهما بوصلته وهما معينه حين تتيه أو تضيق الطرق.
كان للطقس الحسيني حضورا واضحا في أعمال محي الإشيقر، ولهذا العامل أثر فاعل ومهم في رفد الحركة المسرحية في محافظته عموما وفي مركزها بشكل خاص. وإذا كان الفن العراقي قد أنجب وعلى هذا الصعيد من أسماء لامعة، فسيأتيك في مقدمتهم وعلى الفور، تلك الشمعة الخالدة في سماء المسرح العراقي وأحد روادها، الا وهو الفنان القدير وطيب الذكر والثرى، بدري حسون فريد. ثم راحت تلتحق به تباعاشخصيات أخرى لا تقل عطاءا وإبداعا، ولعل جواد اﻷسدي سيكون من أبرزهم.
عن الكاتب وإذا كان لنا من قول، فهو إبن بار ووليد طبيعي لهذه المدينة، حيث جمع بين يديه صناعة الكتابة وفن المسرح وتلك الشعائر والمشاعر الدينية والتي نَمَتْ معه وظلَّت ملازمة، مرافقة له حيث يشاء من اﻷمكنة. غير ان ما يمكن إضافته وما دمنا نستعرض المؤثرات الخارجية على سيرة صاحب الذكر، هو ذلك الميل العروبي المعتدل، الواضح عليه والمتجسد في طبيعة إنتمائه السياسي، يوم حَملَ وصحبه راية الدفاع المشروعة عن شعوب الشرق وهمومها وفي مقدمتها القضية الفلسطنية. ولا أظن انَّ في ذلك من غرابة، فكثير من اﻷسماء الثقيلة التي حملت هذه الراية وعلى مستوى الوطن بل ومنهم من عبرحدود بلاده، هم من أبناء مدينته. وقد يكون مرد ذلك هو إحساسها المبكر بتلك اﻷوجاع التي تعاني منها الشعوب المضطهدة، ولربما للتأثير الديني هنا بعض نصيب، عدا عن إطلاعها وإنفتاحها الواسع على أثنيات وأعراق متعددة، بإعتبارها مركزا دينيا ووجهة سخية العطاء، مع الحفاظ وهنا مربط الفرس وخلاصة القول على هويتها القومية، دون أن يكون ميلها هذا على حساب أو يأتي بالضد من أخوته من المكونات اﻷخرى.
وعود على بدء، فمن خلال قراءتي لرواية الصديق محي وﻷني قريب منه، سنكتشف انَّ هناك تقاربا شديدا بين شخصية سالم، والذي يُعد المحرك الرئيسي للسرد كما سبق القول، وبين كاتبه. فمن خلال سيرورة العمل سيدفعك الى القول بأنَّ سالم وعلى ما أرى، يمكن عدَه إبنا شرعيا، يقترب كثيرا من صاحب النص إن لم يتطاببق معه والى حد بعيد. فهمّه الروحاني جلي عليه، وراحته ستتجلى أكثر حين يكون على مقترب من أضرحة مدينته المقدسة، وستبقى كذلك حتى يومنا هذا. هي سلواه إذن وستعطيه دفعا ودفقا من الطمأنينة، ومن غير أن يكون مبالغا في ذلك أو ميالا لطرف أو جهة على حساب أخرى، فكما رأى في مقام محي الدين ابن عربي في شام سوريا، مزارا محببا له، فسيجد راحته أيضا في ضريح السيدة زينب أو أزهر مصر وقيروان تونس أو جامع آيا صوفيا في اسطنبول، فكل هذه اﻷماكن وشبيهاتها، ستفتح له بابا من التأمل وتبعث في نفسه السكينة.
وأن يكون الكاتب قد إستقى عمله من تجربته الشخصية فهذا لعمري شيء حسن، فاﻷعمال الروائية ستتنوع بكل تأكيد مشاربها ومصادرها وبما لا يدع مجالا للشك، وسيكون من بينها وفي مقدمتها تجربة الكاتب الشخصية وما يحيط بها من أجواء وعلاقات وبيئة. وقد تأتي أيضا من طبيعة مشاهداته وإطلاعه على تجارب اﻵخرين، مضيفا عليها نوع قراءاته وما سيستنبط منها، فكلما إتسع مخزونه المعرفي، كلما إنفتحت ورحبت أمامه أساليب التعبير وتعددت وبرشاقة وحيوية أكثر. فضلا عن ملكات الكاتب وموهبته، وكيفية توظيف رصيده لما ينوي خطّه في مدونته وهذا هو اﻷهم.
وكي لا نطيل عليكم فها نحن نستعرض سريعا بعض من أهم محطات رواية محي(كان هناك):
أسباب السفر عديدة وكُتِبَ عنها الكثير، فقد تكون دوافعها إقتصادية أو سياسية أو لأغراض أخرى متعددة، غير ان الشعب العراقي وأكاد أجزم وبالقياس الى أخوته وجيرانه، فهو اﻷقل حظا واﻷقل حماسا للتغرب، وعن ذلك قرأنا العديد من اﻷعمال اﻷدبية. وﻷنا نخوض فيما كتبه صديقنا فسنتوقف ونقتطع ما كان قد حققه من إختراق لأعماق سالم وتمكنه كذلك من قراءة ما يفكّر به في لحظة كهذه، دون أن يبوح بذلك:
أدرك بقلبه ان هذه النظرة هي اﻷخيرة، وما من فرصة لوداع أي شيئ.
بإختصار هذه الجملة ستنبؤك بعدم رغبته البتة بالسفر.
وﻷنه واثق من أحاسيسه الداخلية والتي تشير الى أنه سوف لن يعود ثانية لمدينته التي أحبها وأحبته بل تنافسا على ذلك، فراح يصفها بجملة رائعة، كثيفة التعبير وغاية في اﻷناقة:
فقد كانت منذ لحظات أشبه بمشكاةسماوية معلقة في أسفل قبة ظلام الكون.
مع التقدم بقراءة الروايةسيكشف الكاتب وبوضوح، السبب المباشر الذي يقف وراء مغادرة سالم مدينته بل وطنه:
كان سالم ولدا من نار وشقيقا للحدائق.
وفي ما بعد ستأتي جملة أخرى، تبين طبيعة التهمة التي وُجهت اليه والمتمثلة بــ :
هاجم سالم أحد المسؤولين بسكين خاص بتكريب النخل… .
هذا ما ورد في التقرير اﻷمني الذي رفعه أحد المخبرين الى سيده.
بعد أن خرج من الحدود وأطمأن أن لا عودة الى تلك الوجوه اﻷمارة بالحقد والكراهية، أراد سالم أن يستنشق هواءا عذبا،صافيا، طالبا من رفيق رحلته والذي أسماه محمداً فتح كل نوافذ الحافلة التي أقلتهم الى بلاد الشام، ثم راح قائلا:
أريد هواءاً.
فهواء مدينته ووطنه قد طالها الخراب والتراب، وما عادت أنسام دجلة الخير تأتيه بريح الصبا.
واصل سالم رحلته، وﻷنه لا زال يقلّبُ في ذاكرته تلك الليالي الخوالي، فقد فاته التنبه الى (ريمة)، هذا هو اسمها والتي وصفها بــ :
الوردة الجالسة في المقعد المجاور له.
ربما لإنشغاله بأخيه همام، فقد كان هو اﻵخر قد مرَّ من هنا قبل فترة من الزمن، ثم راح متسائلاً:
ولكن…. الى أين …؟ هذا ما لا أعرف…
وبعجالة إستدرك وجهة أخيه،إذ إلتحق حين ذاك بأحدى فصائل المقاومة الفلسطينية.
ما إنفك الحنين يضرب بذاكرته لينقله الى هناك مرة أخرى، مستعيدا تلك اﻷمكنة، انه نوع من الوصل الذي يصعب فصمه:
سطور دقيقة لنخلات متكئات على أفق من اﻷزرق الذي في عطر أمي، ودرب نحيييييييل طافح بالنرجس والعسل. هل هو النهر النائي الفرات؟ بلى…..هو طريق الجنة المعبد بصوت أبي، وحقول القمح الناضجة في عيني الطائر المحلق… عاليا.
سالم سيلتقي أحد تلامذته، إسمه عامر، وصل حديثا بلاد الشام يوم كانت آمنة ووجهة للخلاص من قمع ذلك القابع في بغداد. هو بابلي اﻷصل والهوى والميول ويفخر بنسبه هذا، لِمَ لا، فهي منهل الحضارات وعزّها، وجنائنها لا زالت معلقة لترفل التأريخ وكتبته بما خطّه اﻷولون. غادرها مجبرا كما أخوته الآخرون من أبناء تلك البلاد، حين لم يروا من خلاص سوى إعادة ترتيب أوضاعهم وَﻷم جراحهم بعضا من الوقت، حتى تزف ساعة العودة المباركة والمظفرة.
كان هارون رجل اﻷمن ثالثهم، ومركز جذب أحايثهم، فما أن يدور الكلام عن آلة القتل الاّ ويكون حاضرا. سيستعيد عامر ذلك المشهد الذي سقطت فيه زوجة رجل اﻷمن من علٍّ على رماح مسننة بعد أن مسَّها الجنٌ، كانت بمثابة السياج الذي أرادت أن تحمي دارها وتحتمي به، ناسية إن تلك الرماح سوف ترتد عليها حين تحين الواقعة:
أعدادا غفيرة من اﻷهالي تتوجه صوب ضابط أمن المدينة المعروف بإسم هارون، هذا ليس اسمه الحقيقي فهو يستعير مجموعة من اﻷسماء…. .
صَدَقَ وأصابَ محي في قوله هذا، فإسمه بالتأكيد عبارة عن إستعارة لكل رجال البطش التي مرَّت على بلادي الحزينة والضحية، ويوم تحكَّمت بمصائر شعبي، فربما هذا الشخص قد عاش قبل مائةسنة أو خمسة قرون أو أكثر، ومارس ذات القوة والبأس مع معارضي حكمه، ومن المؤكد أن يأتي زمان، سيرتدي به ذات الـ(هارون) هذا زيا آخر وسيتستر خلف عباءة رجل دين، أو يعتمر عمامة بألوان مختلفة، أو يكون قد حنَّ الى طربوشه التركي ويحلم بعودة سلطة آل عثمان، أو سيستحضر شخصية تشبه بهجت العطية، وزير داخلية الملك المفدى ولكن بِحُلة وتسويق جديدين، دون أن يفوته إستخدام تلك التي شاعت آنذاك والمسماة بألـ(الفيصيلية) ليتذكر أيام الملك المعظم.
بالمناسبة قد يعترض أحد القراء ليقول: زمان الملك كان أرحم، ربما، ولكني تعمدت إيراد مثال كهذا، كي نعقد مقارنة خاطفة وقد تكون متأنية، بين ما فات من زمان وبين ما يحلُّ بنا هذه اﻷيام. إيه يا بلادي، الا تراهم يتنافسون ويتقافزون كالقردة لنيل ذات المنصب الذي كان يشغله هارون، ومن شدة اليأس وبلوغنا مرحلة متطورة جداً من الإنحطاط والتداعي، بتنا نخشى على بغدادنا من الموت ويبقى جلاّدها، فما نراه هو سقوط الدولة ومن قاع الى قاع وليس في اﻷفق حلاّ.
لم يطل المقام بسالم طويلا في الشام، فشدَّ أحزمته ورحاله صوب بيروت، حيث الثورة الفلسطينية وحيث رغبته ومراده. أختيرَ له هناك مكانا في إحدى قواعدها، كذلك إسما حركيا قريب الى قلبه ووجدانه (حسين). صادف أن يكون إسم مسؤوله أبو الشفيع. تقاربا وأنسجما على نحو سريع، وتصاعد بينهما منسوب الثقة، فراح كل منهما ينفتح على اﻵخر وبشكل مُطّرد ليدخلا في بعض من التفاصيل. وعن ذلك فقد بادر سالم وببضعة كلمات، أعادتني أنا، المتطفل عليهما الى ما كنت قد ذكرته في بداية المقال عن وجود صلة قوية تجمع ما بين (سالم) من جهة وبين كاتب الرواية من جهة أخرى. وعن هذا فلنستمع الى ما دار بينهما من كلام:
اني عملت في حقل التعليم لفترة من الزمن قبل التحاقي بالمقاومة.
ــ ((ولكن لا يبدو عليك انك كبير في العمر.)) قال
ــ ((لكنني أشعر انني مسنٌ)) قلت
ــ((أبدا، لو لم تخبرني… بعمرك، لقدرت أننا متقاربان في السن))
في ما بعد ستتعزز الثقة أكثر بسالم حتى بات يُكلف من قبل المكتب العائد لإحدى فصائل المقاومة الفلسطينية ببعض المهام السياسية، كصياغة التقارير التي تخص عمل الثورة، والتي لا تخلو من جهد فكري وسعة إطلاع.
شبح رجل اﻷمن والمتمثل بهارون ظلَّ يلاحق سالم حتى في منامه على الرغم من بعاده عن وطنه، ولكن هذه المرة سيحضر بطريقة مختلفة تماما، حيث أوقفه أمامه كما المتهم، باحثا عن مصير شقيقه:
أريد معرفة أي شيء عن مصير همام….
علما أن شقيق سالم هذا، كان قد خضع لعملية تعذيب بشعة ولكنه بقي صامدا، بسبب من تكليفه:
بإغتيال أحد المسؤولين الكبار… بعد أن زُودَ بمعلومات كافية عن هذا المسؤول …. .
بعد أن يفيق من حلمه هذا سيعود سالم ليتذكر بيته الذي هناك، في مدينته المقدسة. ومما لفت إنتباهه هو أنَّ أخاه الذي يكبره لم يكن من بين مودّعيه، إذ كان وقتها منشغلا في أمرٍ ما، كما قيل له، ولعل أهل البيت تعمَّدوا عدم إخباره فما يربطهما من ود لعصي عليهما تقبل فكرة افتراقهما، فهما بمثابة الإبن وأبيه. وعن ذلك ستأتيه اﻷخبار عن مدى الجرح الذي أحدثه ﻷخيه بسبب غيابه هذا.
ومع المضي في قراءة الرواية، سينقلك محي الى جو آخر من السرد، لكنه سوف لن يفقد الترابط والتسلسل المنطقي للعمل. ففي إحدى صفحات الكتاب وبشكل ما سيشير للقارئ عما يمكن تسميته بإحدى الساحات التي تقف عندها الحافلات القادمة من الشام، ليتحول هذا المكان مع مرور الوقت الى ملتقى يضم بين جنباته غرباء بيروت ولبنان بشكل عام، تراهم على درجة عالية من التوتر والقلق، منتظرين زائرا جديدا أو كل مَنْ سيأتيهم بخبر ما، يفتح لهم بابا من اﻷمل. من بعيد سيلوح لهم شخصا ما، بدأت معالمه تتضح شيئا فشيئا:
كان ذلك رجلاً عالياً بعينين واسعتين وجبين مقطب يعتمر اليشماغ والعقال….، سقطت عباءته الحنية اللون عن كتفه، بحركة ما أعاد عباءته الى كتفيه وهو يشعل لفافته وينفث الدخان من فمه وأنفه، متقدما بصمت أب من طراز صديق.
يبدو أن الزائر يدخل بيروت أول مرة، هذا ما يشكل من إنطباع لكل مَنْ يراه. فطرق الوصول الى مايريد، ضاعت وتشابكت ولا يدري من أين يبدأ؟ كيف سيستدل على شقيقه؟ فمهمة العثور عليه في هذه المدينة المتباعدة والمترامية اﻷطراف، بدت صعبة عليه إن لم تكن مستحيلة، غير انه بقي مصرا على تحقيق ما جاء من أجله. المساء بدأ يزحف والمارة أخذت أعدادهم بالتناقص ولكنه لم يفقد اﻷمل، فها هو يلتقي بشخصين ممن سيفتحا له باب الرجاء، وحسن المصادفة هذه المرة قادته الى مبتغاه وليبادر أحدهم وبلهجته الخاصة والمفهومة في آن:
ــ:((بتسأل عن حد))؟
ردَّ عليهما بسرعة المستغيث وبلكنة فراتية، عذبة:
ــ:((أنشد عن أخي سالم.))
ﻷن في وجهيهما بعض حيرة، راح مكملاً سؤاله، بفخر واعتزاز، ربما أراد من وراء إيضاحه هذا أن يكسب تعاطفاً معه:
ــ:((هو مقاتل، فدائي في إحدى الجبهات …))
لم يتأخرا كثيرا، حيث استجابا له وأعاناه على مبتغاه. فبعد أن أجريا بعض الإتصالات الهاتفية الخاصة، أبلغوا سالما بوصول زائر مهم الى بيروت ويقو بالبحث عنه، فما كان منه الاّ الإستجابة السريعة، فلعله قادم من هناك:
ــ :((أوقف سيارته بمحاذاة أحد محلات الفليبرز بهدوء. اشترى علبة دخان….. مرَّت بخاطره صورة أخيه الكبير، لكنه استبعدها. حتى إذا كان أخوه القادم، فكيف… ومن الذي أوصله؟))
لم تخطئ عيناه، ليصرخ سالم من بعيد بعد أن تيقن من ناظريه:
ــ:((شِفْتكْ .. شوصلك..؟))
التقيا، تعانقا بحرارة، شدّا إنتباه المارة وتوقفت بسبب هذا المشهد حركتهم. انها لصورة مؤلمة جدا، علَّقَ أحدهم. في هذه اﻷثناء بدأت حمم النيران العبرية تتساقط على رؤوسهم لذا:
ــ:((تلَّ سالم أخاه من ذراعه ليضعه على كتفه أو بين ذراعيه وربما أسفل قلبه.. في مدار من الركض بل الطيران.. رامحا به صوب أي مكان آمن … ومن هناك بإتجاه دمشق))
توادعا على عجل، خشية عودة الطائرات العدوة ثانية. لم يعد سالم الى وحدته أو لنقل مكان عمله، والتقارير التي كان يشتغل عليها تركها مفتوحة على أمل إستكمالها حين عودته. علامات القلق على محيا أبو الشفيع باتت جلية، رغم محاولته التغطية على ذلك من خلال تظاهره بقراءة أمر ما. على نحو مفاجئ:
رنَّ جهاز الهاتف في المكتب، فإنقطع أبو الشفيع عن القراءة، ليرد على المتحدث
ــ:((نعم
ــ:((هل هذا مكتب..
ــ:((نعم..
ــ:((أنا
ــ:((نعم
ــ:((هنا، منذ البارحة كان يرقد..
ــ:((نعم
ــ:((وكان يحمل بطاقة صادرة عنكم تحمل اسم همام حمزة..
ــ:((نعم
ــ:((مات منذ ساعة.
هذا يعني ان همام هوسالم والعكس صحيح. في كل اﻷحوال فقد إنتهت رحلته وهو بعيد عن وطنه. وسيجري التأكد فيما بعد من أنه كان قد تعرض الى حادث صعب الشفاء، إثر سقوطه من سلم البيت الذي كان قد لجأ اليه مؤقتا، ولم تفد معه كل المحاولات التي بذلتها تلك العائلة التي سكن عندها من أجل إنقاذه.
ــ:((فألرضوض والكدمات والكسور قد لحقت برأسه وأضلاعه بكل وضوح).