(اقرأني بتأن .. لتدرك ما اعني).. بهذه الجملة الفعلية الخطابية، التي تحمل بعدا تداوليا، بصيغة الأمر، يستهل عقيل فاخر الواجدي مجموعته القصصية (كاني) الصادرة سنة 2016 .. خطاب قصدي موجه إلى قارئ يقف على عتبة منجز سردي، يجهل تفاصيله وخفاياه، لذا حاول القاص أن يجعل من مقدمته ناصية لولوج أكثر إدراكا ووعيا، عبر ثلاثة محاور كانت الدعائم الرئيسية لنصوصه الخمسة عشر..الدعامة الأولى: كشف الوجه الآخر للحقيقة ( واقع جاهدت أن لا أكون مترجما حرفيا له، فترجمة بعض الأشياء إلى حقيقتها يجلي قبحها ).. الثانية: المرأة وصيرورتها عبر التاريخ الإنساني ( المرأة هي الريح التي تبعثر كل سكوني وتقتلع أشجار تخوفي).. الدعامة الثالثة: البيئة التي انطلقت منها النصوص، وساهمت بخلقها، والتي ولدت هاجسا سحريا منح القاص القدرة على الكتابة ( كانت ولا زالت الكتابة عالمي الذي يقيدني إلى واقع هو السمة الظاهرة لكل العوالم المحيطة بي ).
يقول الناقد الجزائري سعيد علوش ( إن إحدى وظائف السرد هي البحث عن حقيقة الآخر وليس الأنا ).. وهذا ما لمسته في هذه المجموعة المحملة بحزن الجنوب العراقي وهمومه، وسفر مخاضه العسير عبر تاريخه الحديث، حكايات تناولت الوجع الجنوبي وصورت ماسي الحروب وأزمنة الجوع والانتكاسات، نصوص أمسكت بأطراف الأحجية العراقية الممتدة من معتقل نقرة السلمان إلى مجزرة سبايكر، ليفصح لنا عقيل الواجدي عن جزء يسير منها، بلغة شعرية هادئة حزينة ، ضمن مبنى كحائي تقليدي يراعي أسس السرد الأرسطي ( البداية والعقدة والحل) مستخدما تقنية السارد العليم في معظم نصوص المجموعة، التي سيطر عليها ثالوث ( هاجس الزمن والغربة وعدائية المكان) تحكم في إيقاعها وأضفى عليها بعدا تشاؤميا ملأه الخوف واليأس والترقب.
كان الزمن عاملا سلبيا غير منتجا، بدءا بالمقدمة حيث وصفه بزمن الوجع، ليتحول إلى زمن اللهفة في قصة الرصاصات الفارغة (وجودها يرتق أزمنة من اللهفة تفز بها الروح).. ومن ثم يطلق عليه زمن الخيبات في قصة ذاكرة الدخان ( ربما هو الزمان الذي ارشف زمنا من الخيبات).. لكن للغربة وقع اشد وطأة على أبطال نصوصه، غربة ذاتية لكاتب مثقف حاول تصديرها إلى الآخر، عبر حكايات لأناس هم صنيعة خياله، أو إنهم عاشوا جزءا من تلك الحقيقة.. في بعض الظروف الاستثنائية كما حصل ويحصل في العراق، يصبح المثقف فيها فردا ( داروينيا) حسب مصطلح البير جيمي، يبحث عن وجهه الحقيقي مدركا مرارة عملية تحول الأنا نتيجة الكبت، إلى الآخر.. في لوحة سردية تحمل سمة شعرية جميلة يجسد القاص الغربة في هجرة أبناء الجنوب، الهاربين من الاستبداد والفقر إلى مدن أكثر حبا وأمانا ( اغتراب أرصفة تحث السالكين على الرحيل)..ذلك العوز والتهميش الذي قتل عند الكثيرين الشعور بالانتماء، في نص آخر يحاور البطل وطنه الذي يوشك على هجرانه ( كم نحن غريبان عن بعضنا البعض أيها الوطن).
تميز عنصر المكان بعدائيته ووحشته في معظم الأطر الحكائية العامة للمجموعة ( مدن فقيرة، سجون، ساحات حروب، غرف معتمة) أماكن تبعث على الخوف والوحشة، كان لهذا الثالوث الحزين شمسا حزينة هي الأخرى، شمسا ليست ككل الشموس، أراد لها الواجدي أن تعبر عن وجه آخر لحقيقتها، لفعلها الأزلي اتجاه الوجود .. شمس كاني كانت نذير شؤم وخوف كانت بطعم الجحيم، في قصة بسمة كانت الشمس إشارة إلى الرحيل والوحشة ( الشمس تؤذن بالغروب، تودع النوافذ عبر تكسر ضوئها مابين الأشجار).. وفي قصة الجدار فقدت الشمس بديهيتها كمانحة للنور والدفء والأمان ( الشمس كوكب بارد).. وأما قصة كاني التي حملت المجموعة اسمها، شبه القاص بزوغ الشمس بالانسلاخ، رمزية لعفة كاني التي استبيحت على يد الإرهاب.
افتقدت المجموعة لذكر الأسماء فيها، سواء كانوا أشخاصا أو أمكنة، إلا ما ندر، وهذا أمر يحسب للقاص، كون الفن القصصي لا يحتمل الإسهاب والتشعب، خوفا على ضياع الثيمة المركزية للنصوص، وسط فوضى التفاصيل.
أهم قصص المجموعة:
1- الرصاصات الفارغة: نص يروي بعض الذي حدث في معتقل نقرة السلمان بعد انتفاضة آذار 1991، الابن الذي فقد أباه هناك بعد أن كان رفيقه في سجنه، تصوير متقن من خلال انتقالات ومقاربات زمانية ومكانية، بين الذاكرة والوعي الحاضر، لحالة الحزن والاستلاب التي كان يعيشهما البطل بفعل اليتم والفقر، محاولا تصدير هذا الشعور إلى الآخر، عن طريق وصف دقيق لحالة الحزن المخيف الذي كانت تعيشه عجوز مجنونة تفترش احد أرصفة مدينته البائسة ( عيناها اللتان غار فيهما الحزن حتى تشك أيهما اسبق، عيناها أم الحزن).
2- ذاكرة الصحراء: تحكي قصة جيل سحقته الحروب والانتكاسات، وانزوى بعيدا بفعل الفقر والتهميش، ثيمة الاغتراب وتداعياته هي الوجه العام لهذا النص، حين يقرر شاب جنوبي الهرب من جحيم العراق إبان النظام السابق، بجواز سفر مزور، بعد أن أدرك أن كل قناعاته وانتماءاته مزورة هي الآخر، طرح النص الكثير من التساؤلات عن جدوى وجودنا، عن أقدارنا، مصائرنا، لتصوير حجم اليأس والإحباط اللذان كانا يعيشهما البطل، وكذلك شهد النص استحضارا تاريخيا بطريقة تهكمية.
3- كاني: نص إدانة للتطرف والإرهاب، وفضح للشعارات الزائفة التي يتوارى خلفها دعاة القتل والانحراف.. كاني فتاة ايزيدية فقدت عذريتها على يد داعش، أراد القاص جعلها رمزية لوهم الانتماء الذي تعيشه الأقليات الاثنية في عالمنا العربي والإسلامي.. تداخل زمن السرد في هذا النص عبر انتقالات سريعة في المشاهد ( مشاهد اغتصاب، مشاهد هروب، العودة مرة أخرى لمشهد الاغتصاب) وسط كل هذا الرعب والخوف والوحشية، فتح لنا القاص نافذة جمالية صغيرة، ليعمق مأساوية النص، وذلك بتصويره الجميل لكاني وأنوثتها (كاني فتاة النبع، انفلتت كانشطار كوكب عن مجرته…).
4- رقم الحكمة: نص ذا طابع رمزي إيحائي، نوه القاص في مقدمته على انه كتب كنوع من السخرية والتهكم، على ( أقوال القائد) .. في هذه القصة تداخل عنصرا الزمان والمكان، مع الحدث ، ليؤثر على الفعل الإنساني فيه، الفعل الذي كان مقيدا بين شاخصين رئيسيين، لكنهما لم يمنحا هذا الفعل فرصة كي يستطيع رسم أقداره، التي بدت بأنها هي من تصنع نفسها ( الوقت يمر، المكان يضيق ، الفئران تتناسل أسرع مما يتوقع …).. كان بإمكان القاص وضع هامش صغير، في نهاية متن النص يذكر فيه تاريخ كاتبته له، وأما عملية توضيح قصديته فلم تكن ضرورية، كون السرد عالم يتيح للقارئ متعة القراءة والاستنتاج، ويفتح أمامه عالم افتراضي، من التصورات والانطباعات، ومن غير المناسب أن يتدخل الكاتب بهذه الطريقة، ليمارس نوع من القولبة الذهنية له.. وهذا الأمر نجده قد تكرر في قصص ( رقم الحكمة، كاني، وعرض بحجم الأفق ).
5- الذي لم يصل: نص يسلط الضوء على مجزرة سبايكر التي حدثت في حزيران 2014 .. تميز القاص بقدرته على الاسترسال في بناء الصورة الذهنية للحدث الحكائي، مستخدما لغة متقدمة،كما في هذا المشهد الذي يصور فيه احد الجنود المغدورين ( البيوت التي يسعى نحوها لتلافي الرصاص تنداح بعيدا كأنما تمنح الموت فرصة الانقضاض عليه، كل ما حوله أصبح بعيدا إلا الموت، عاهرة هذه الأرض، فلطالما فتحت فخذيها للقادمين من خلف الحدود يعمدون أنوثتها بفحولة الحقد ).. طغت المشاهد الصامتة على هذا النص والمنولوجات الداخلية.
6- عرض بحجم الأفق: موقف عاشه احد أقرباء القاص إبان النظام السابق، وظفه بطريقة متوارية، شاب ملاحق من أجهزة النظام السابق لموقف سياسي وديني اتخذه اتجاه ذلك النظام، تعرض على إثره إلى الاعتقال والتعذيب .. الملاحظ في هذا النص وجود مقدمة تعريفية له، وحضور أفعال الإرادة لجمل تقريرية خبرية، عبر متوالية تداولية حكائية، أخذت حيزا مهما من متن النص ( أراد، ارتدى، حاول، خرجت، وضع، خرج …).
7- الصفعة: قصة تحكي يوميات سجين سياسي يعيش تحت وطأة التعذيب الجسدي والنفسي، تصوير لمشاهد وكأنها الجحيم ، قدرة كبيرة على استشعار ( الألم، الامتهان، الخيبة) إيقاع متسارع للأحداث، بصورة أفقية، ( زنزانة، سجين ، جلاد، زمن مفتوح ) ..فلك دار به هذا النص المفتوح على المجهول بين الألم واليأس (الوهم وحده من يمنح الحياة في الزنازين المظلمة، عليك أن لا تؤمن بالغد لتعيش يومك).
8- عربة الليل: تصوير لحالة القنوط واليأس والانزواء التي يعيشها سكان حي جنوبي، كأنموذج للفقراء الذين يفترشون خارطة الوطن .. وسط هذا اليأس ظل الأمل معلقا بمصباح في عمود يغفوا في نهاية الطريق، يستقطب أطفال الحي والغرباء ( هو العمود الذي يتحلق حوله الصبية حتى أوقات متأخرة من الليل هربا من حر البيوت، كان مبهجا بنوره لأرواح سئمت الظلمة ..).
9- الوقت لا يكفي لبناء حلم آخر: في استهلال سردي حمل بعدا تشاؤميا ينذر بفقدان الأمل وعبور الزمن إلى الساعة الخامسة والعشرين، يضعنا القاص أمام مشهد ثلاثي الأبعاد وموندراما قصصية (لموقف حيوي محدود الإطار) كما عرف الناقد ياسين النصير القصة القصيرة، وتصورات إنسان يعيش لحظة هزيمة تطل به على نهايات أكثر عتمة من تلك الليلة لمدينة غافية على نمطية تاريخية ثابتة، ومتوالية اجتماعية بائسة لا يتوقع منها أن تنتج شيء غير مألوف، شيء قد يكون بطلا أسطوريا يعمل على تغير واقعها وحياة سكانها المدجنين ..( الزمن المتبقي لا يصلح لتشييد عصر آخر، ولا الوجوه المكعبة تصلح لبناء هيكل بطل أسطوري، فكل ما في المدينة أزقة خرساء، وليل يتسلل كالخدر في المفاصل).. وهنا نلاحظ طغيان النزعة (التيشوخوفية) في السرد، الميالة إلى تصوير الانفعالات النفسية الحادة والمؤلمة للبطل، وإظهارها بطريقة مؤثرة تجعل من القارئ في حالة تعاطف معه، الذي كان وعي القاص حاضرا من خلاله، في تصوراته ورؤاه ونظرته للمجتمع المحيط به.