23 ديسمبر، 2024 8:08 ص

بالضرورة أن يكون الفيلسوف مثقفاً، وليس بالضرورة أن يكون المثقف فيلسوفاً؛ فالفيلسوف يحمل هوية المثقف، وقد لا يحمل المثقف هوية الفيلسوف. وعلى اعتبار أن عمانويل كانط فيلسوفاً من الطراز الاول، بل شيخ الفلسفة الحديثة كما وصفه أحد الكتّاب المعاصرين، وهو رائد الفلسفة النقدية في العالم، بلا منازع، ولا يزال الكانطيون مؤمنون بكل ما طرحه كانط من رؤية فلسفية للكون وللوجود وللأخلاق والدينين والميتافيزيقا والسياسية، وقد اعتبر كانط الاخلاق هي أساس كل شيء، يعني: إن الاخلاق هي معيار الانسان المستقيم، وهو يفضل الاخلاق على الدين، ويرى أن الانسان الذي يمتلك أخلاقاً بالضرورة أن يمتلك دين ويصبح إنساناً متديّن (بالدين الذي يراه هو صحيحاً) بعكس الانسان الذي يمتلك دين ولا يمتلك أخلاق، فالدين لا يصنع أخلاق، والاخلاق تصنع دين، إذ بالمحصلة النهائية: الاخلاق هي فوق الكل، وهي القيمة الحقيقية للإنسان السوي.

والثقافة، بالنسبة لكانط، التزام أكثر مما هي معيار ذا قيمة معرفية. الثقافة سلوك سوي يرتبط بقدسية الانسان والتزامه بسلوكه تجاه الآخرين، وتجاه نفسه كذلك، وبالتالي تجاه مجتمعه (المجتمع الذي يعيش في احضانه). وتنطلق ثقافة كانط من كونه يراقب كل الاحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المحيطة به، سواء في داخل بلده أو خارجه، وكانط يحلل الامور ويفلسفها برؤية ناقد بارع غير متحذلق، مطلع على كل شاردة وواردة، من خلال رؤيتين: رؤية فلسفية (فلسفة النقد التي شيّد أركانها ودق أوتادها بارض الفلسفة الحديثة) ورؤية ثقافية شاملة، وهتين ما جعلت منه أن يكون كذلك مثقفاً من الطراز الاول، أي أنه بذلك يكون مثقفاً شمولياً، يستوعب جميع الاطر التي تطرأ في الساحة الثقافية والفلسفية معاً، وليس هذا فحسب، بل أن كانط كان عالماً اجتماعياً ايضاً، ذلك حينما كان يجلس مع كافة شرائح المجتمع، ويشاركهم افراحهم واتراحهم آنذاك، ويحدثهم ويستمع اليهم ويدرس مشاكلهم ويحاول أن يضع لها الحلول المناسبة، بعكس ما اتهمه بعضهم: من أنَّ كانط كان منطوياً على نفسه ومنعزلاً عن المجتمع، بهدف الانتقاص من شخصيته وتقليل من شأنه ومن فلسفته التي طغت على كافة الفلسفات الاخرى التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وصار حديث الناس يدور حول فلسفته.

المثقف، وعلى اعتباره أنه عقل فاعل في مجتمعه يقيم أود الحياة بكل اشكالها، فأن كانط، ومن هذا المنطلق، كان المساهم الاكثر فاعلية وحراكاً، إذ تتجه اليه الانظار أكثر من سواه في الساحة الثقافية والفلسفية معاً، حتى أنه ملأ الخافقين في اطروحاته ونظريات التي اثارت من حوله كثير من الشكوك والتهم، حتى أن رجال الكنيسة (وهذا هو ديدنهم) اتهموه بالإلحاد، رغم أنهم لا يعون اسلوبه في الطرح، وادعوا أن اسلوبه صعباً، وهو ما جعله أن يطلق العنان لقلمه وأن يعطي مساحة واسعة لتفكيره الحرّ، حتى أنتج فكراً لا يزال الى يومنا هذا محط نظر وتفكر من قبل المعنيين في هذا الشأن.