23 ديسمبر، 2024 9:17 ص

كاطع والعراق … وجهان لعملة واحدة

كاطع والعراق … وجهان لعملة واحدة

كاطع رجل كبير في العمر، يجلس على سريره الحديدي بطريقة السجود و يداه إلى داخل بطنه، متأبطا بوسادة منحنية، السكائر ضيوف دائمة مابين أصابع يده، عندما يرشف التبغ إلى رئتيه تشعر وكأنه يستجمع الأزمنة الغابرة ويرشقها على شكل دخان في فضاء غرفته الممتلئة بتجاعيد الجدران التي تتشابه كثيرا مع ما رسم على وجه صاحب الغرفة، كان يتصل مع الحياة عبر نافذة تطل على شارع فرعي، تتشابه كثيرا مع شباك سجن “زاويرا”، يسرح بصره عبر ممراتها بطريقة المرتقب الزاهد، هادئ مسالم لدرجة الاستسلام، لا يسمع له صوت لدرجة كنت أظنه فاقد للنطق لولا لقاء يتيم جمعني معه عندما كنت في الخامسة عشر من العمر بعد أن اخذ يكشف لي عن تاريخ قبيلتي وأجدادي.

أنها حكاية من زقاقنا القديم، فمنذ طفولتي وانا اسمع وارى مشاجرات أبناء كاطع الخمس التي تدور قصتها على جدلية إن على الساكنين في الدار بشكل دائم عليهم إن يقوموا بإعطاء حصص واسهم الإخوة الذين سوف يغادرون بيت العائلة على الرغم من إن صاحب الدار ما يزال على قيد الحياة, فيما بعد عرفت إن النزاع حول “سايكس بيكو” بيت كاطع بدأ في زمن نظام البكر وانتقل مع حكم صدام حسين، والحديث مازال شائكا بعد إن تحول الجدال والصراع مابين الأبناء بالأسلحة البيضاء والسوداء، غير إن وجهاء المنطقة دائما ما كانوا ينهون الاقتتال بشكل مؤقت، حتى بات أهالي الحي يشعرون إن هنالك شئ مفقود إذا ما مر يوما دون سماع وعيد وتهديد وصيحات عائلة كاطع.

مرت الأيام وكاطع كعادته يلوذ بالصمت والسكوت عن رغبات أبناءه، والقتال على تركة الوالد ينطفئ يوما ويشتعل في يومه الأخر، دون ان تكون هنالك حلول شافية بعد ان فشلت جميع الأطراف في عقد مؤتمر للتسوية، فلم تنجح معاهدة “فراساي” التي تبناها كبير عشيرتهم ولم يكن هنالك بيان ختامي لمؤتمر “الطائف”، وعدم حسن النوايا قد أسدل الستار على “جنيف” بشقيه الأول والثاني، وبقي الوضع قائما على ما هو عليه.

الحرب العراقية الإيرانية أسهمت في لملمة أطراف النزاع بعد إن استشهد اثنان من أبناء كاطع فيما أمسى الابن الثالث فقيدا لا يعرف له عنوان وخبر، فانحسر الأمر ما بين الأبناء الاثنين اللذان تصدرا قائمة المشهد، فيما بعد انقضت الحرب ولم تقضى حوائجهما، والترامي بالعصي والرصاص ما يزال سيد الموقف، وبعد جهد جهيد اشرف الموضوع على الانتهاء في حلول عام 2008، حينها كان كاطع قد غادر الحياة عن عمر شارف على الخامس والتسعين، فجلس الأبناء وقرروا أن تكون هنالك تسويات مرضية يقبل بها الطرفان وخصوصا إن طرفي النزاع أصبح احدهما إسلامي متشدد فيما كان الأخر علماني لدرجة التطرف، فالاختلاف بات اكبر من قضية سقف وجدران، حينها قررا إن يتنازل احدهما للأخر لقاء مبلغ متفق عليه، وبعد إن تم مراجعة مديرية التسجيل العقاري اكتشفا إن الوالد المرحوم كاطع لم ينهي تحويل ملكية داره عندما أقدم على شراءه في ستينات القرن المنصرم، فبقي باسم حائزها الأول، وبعد البحث من قبل المغلوب على أمرهما للوصول الى الحائر، اكتشفا انه توفى وان هنالك معارك طاحنة مابين أبنائه العشرة على دار كاطع والذين اكتشفوا بالصدفة وبشكل متأخر إن هنالك عنوان تائه لدار وضع في عهدة والدهم.