1—مقدمة
2—المشترك والمختلف عليه في المقالين
3– حول المقالة الأولى
4— حول المقالة الثانية
5—الهوامش لكاتب هذه المقالة
(1)
مقدمة
تقييم لمقالتان مهمتان عن كتاب:
كارل ماركس في أمريكا – تأليف: أندرو هارتمان
(Karl Marx in America by Andrew Hartman)
Karl Marx in America by Andrew Hartman. The University of Chicago Press, 600 pages. 2025.
الأولى مقال بقلم كريكوري جونز كاتز ، وهو مفكر ومؤرخ ثقافي أمريكي. في فورن بوليسي في 30 مايس 2025 (1)
ازدهار كارل ماركس الأمريكي
والمقال الثاني بقلم ماثياس فيولينغ هو مؤرخ وعالم أكاديمي يركز أبحاثه على التاريخ السياسي والاقتصادي, نشر في ذابافلر في 10 حزيران 2025 (2)
فكرة الكتاب:
يركز أندرو هارتمان في هذا الكتاب على تتبع أثر كارل ماركس وأفكاره في التاريخ الفكري والسياسي الأمريكي، ويطرح سؤالًا مركزيًا:
كيف تلقّت الولايات المتحدة، بكل خصوصياتها الثقافية والسياسية، فكر ماركس؟ وهل استطاعت الماركسية أن تجد لها موطئ قدم في مجتمع ليبرالي، ديني، وفرداني مثل أمريكا؟
أبرز محاور الكتاب:
ماركس والأمريكان الأوائل:
يستعرض كيف بدأ اهتمام محدود بماركس في أوساط المثقفين والنقابيين في أواخر القرن التاسع عشر، رغم الهيمنة القوية للأيديولوجية الليبرالية والرأسمالية.
القرن العشرون واليسار الأمريكي:
يتناول صعود الحزب الشيوعي الأمريكي، ثم تراجعه لاحقًا، خاصة خلال الحرب الباردة و”المكارثية”، حيث أصبح الانتماء للماركسية خيانة وطنية.
ماركس في الأوساط الأكاديمية:
يشرح كيف أصبحت الماركسية بعد الستينيات أكثر حضورًا داخل الجامعات من خلال النقد الثقافي، الدراسات الأدبية، والاقتصاد السياسي، حتى لو فقدت تأثيرها الجماهيري الواسع.
الماركسية الثقافية والهوية:
يناقش تحوّل الجدل الماركسي من نقد الطبقة والرأسمالية إلى قضايا العرق، الجندر، الهوية، والسلطة الثقافية، ويطرح تساؤلات حول ما إذا كان هذا التحوّل خيانة للماركسية الكلاسيكية أم تطورًا ضروريًا لها.
ماركس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي:
يوضح كيف أن سقوط الشيوعية الرسمية لم يُنهِ فكر ماركس، بل ظهر مجددًا بشكل جديد – خصوصًا بعد الأزمات الاقتصادية، مثل أزمة 2008 – كوسيلة لفهم تناقضات النظام الرأسمالي المعولم.
هارتمان لا يقدم مجرد دراسة أكاديمية عن ماركس، بل يستخدم ماركس كمرآة لفهم تاريخ أمريكا الثقافي والفلسفي والسياسي.
الكتاب يُظهر أن ماركس ظل دائمًا “الآخر” المرفوض في الثقافة الأمريكية، ومع ذلك، فقد كان شبحًا حاضرًا باستمرار في النقاشات الكبرى حول العدالة، الاقتصاد، والسلطة.
أسلوب الكتاب: أكاديمي لكن سلس
مناسب لـ: المهتمين بالتاريخ الفكري، الدراسات الماركسية، والسياسة الأمريكية
رسالة أساسية له : “ماركس لم يكن أمريكيًا أبدًا، لكنه لم يغادر أمريكا أبدًا أيضًا”
(2)
المشترك والمختلف عليه في المقالين
المقالتان حول الكتاب تتفقان في جوهرهما على أن الولايات المتحدة تشهد “طفرة ماركسية رابعة”. كلتا المقالتين تؤكدان على عودة الاهتمام بفكر كارل ماركس، ليس بالضرورة كدعوة لتبني أيديولوجية ماركسية خالصة، بل كأداة نقدية أساسية لفهم وتحليل الرأسمالية المعاصرة والتحديات التي تفرضها. ورغم هذا الالتقاء في الفكرة المحورية، تختلف المقالتان في عمق التحليل، ونقاط التركيز، والنبرة النقدية.
نقاط الالتقاء: عودة ماركس ودوره النقدي
الجوهر المشترك بين المقالتين هو التأكيد على أن الماركسية ليست مجرد ظاهرة تاريخية في أمريكا، بل هي قوة فكرية متجددة. كلاهما يشيران إلى أن عوامل مثل الأزمات الاقتصادية (خاصة أزمة 2008)، وتزايد التفاوت، ومخاوف اللاعدالة الاجتماعية، والتدهور البيئي، تدفع الأكاديميين والناشطين والجمهور على حد سواء لإعادة اكتشاف كتابات ماركس.
وتتفق المقالتان أيضًا على أن هارتمان يحدد ثلاث طرق رئيسية لتعامل الأمريكيين مع ماركس: الإخلاص لنظريته الكلاسيكية في العمل، والماركسية الهجينة التي تتكيف مع السياقات الأمريكية، والتفسيرات السلبية التي تعكس العداء للشيوعية. كما يسلطان الضوء على أن هارتمان يفضل “ماركس العمل القديم” الذي يركز على المادية والبنية الطبقية، وينتقد الابتعاد عن هذا الجانب نحو التحليلات الثقافية المجردة.
كلا المقالين يستعرضان فكرة هارتمان حول دورات الازدهار والكساد الماركسي في تاريخ أمريكا، من العصر المذهب مرورًا بالكساد الكبير والستينيات وصولًا إلى الطفرة الحالية. وتشيران إلى أن هذه الدورات غالبًا ما تترافق مع تجسيد مختلف لماركس يتناسب مع المناخ السياسي السائد.
نقاط الاختلاف: عمق النقد والتركيز
يكمن الاختلاف الرئيسي بين المقالتين في عمق النقد الموجه لكتاب هارتمان ونقاط التركيز الإضافية.
المقالة الأولى (كاتز -المراجعة الأولية): تميل إلى أن تكون مراجعة وصفية وتحليلية أكثر، حيث تستخلص النقاط الأساسية من كتاب هارتمان وتقدمها بشكل منظم. تركز على محتوى الكتاب وشرح أفكاره الرئيسية، مثل “ماركس العمل القديم” ودورات الازدهار والكساد. نقدها يكون ضمنيًا أو يقتصر على ملاحظات عامة حول تفضيل هارتمان لبعض الجوانب على حساب أخرى.
المقالة الثانية (فيولينك): تأخذ منحى أكثر نقدية وتفصيلاً. بينما يثني على كتاب هارتمان باعتباره الأفضل في مجاله، فإنها تتعمق في تحليل أوجه القصور المحتملة أو “الإغفالات الغريبة والإدراحات المحيرة” في عمل هارتمان. على سبيل المثال:
تشير إلى التركيز المفرط على “الكتب” كمصدر للتراث الماركسي، مما قد يغفل التطور العملي للأيديولوجيات.
تنتقد إغفال هارتمان لشخصيات وتيارات ماركسية مهمة مثل ماركسية الفهود السود (3)، وتأثير الماوية، وشخصيات مثل لويس ألتوسير وإرنست ماندل وهال درابر، بينما يُدرج شخصيات أقل مركزية.
تؤكد على أن الكتاب قد يبدو أحيانًا وكأن عنوانه الأنسب هو “مناهضة الماركسية في أمريكا”، نظرًا لتركيزه الكبير على القوى والمثقفين المناهضين للماركسية.
تسلط الضوء على التوتر بين النهجين الشخصي والمدرسي في الكتاب، وكيف أن الماركسية في أمريكا تفتقر إلى أساس مؤسسي وتنظيمي قوي مقارنةً ببقية العالم.
تختتم بملاحظة شخصية عن رحلة فيولينغ الفكرية الخاصة وانتمائه إلى “ماركس الطفرة الرابعة” الجديد، الذي يركز على البناء الديمقراطي والمشاركة السياسية.
باختصار، بينما تتفق المقالتان على أن كتاب هارتمان يمثل إضافة مهمة لفهم الماركسية في أمريكا وتجدد الاهتمام بها، تقدم المقالة الثانية نقدًا أكثر تفصيلاً وتحليلًا للثغرات والتحيزات المحتملة في منهجية هارتمان وتركيزه، مما يثري النقاش حول هذا الموضوع المعقد.
(3)
حول المقالة الأولى
ماركس في أمريكا: طفرة متجددة في زمن التحولات
يشهد الفكر الماركسي في الولايات المتحدة الأمريكية “طفرة رابعة” غير مسبوقة، لم يشهدها المشهد الفكري منذ ستينيات أو حتى ثلاثينيات القرن الماضي، وهما عقدان تميزا باضطرابات اجتماعية وسياسية كبرى. هذه العودة تثير اهتمامًا واسعًا، ففي حين ينتقد شخصيات مثل ترامب وماسك “تسلل الماركسيين” إلى المؤسسات، يبرز بيرني ساندرز كأشهر اشتراكي في العالم.
تتفاعل الأوساط الأكاديمية الأمريكية مع ماركس بوتيرة متصاعدة. ويتضح هذا في أعمال مثل كتاب فيفيك تشيبر “مصفوفة الطبقات” (2023)، الذي يعيد استخدام الفكر الماركسي لنقد “التحول الثقافي” في النظرية الاجتماعية، مؤكدًا على أهمية البنية الطبقية والعلاقات المادية داخل الرأسمالية. كما يتجلى هذا الاهتمام في الترجمة الإنجليزية الجديدة لكتاب ماركس “رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الأول” (2025)، والتي تقدم “ماركس للقرن الحادي والعشرين”.
أهمية نقد ماركس للرأسمالية
وكما هو الحال في الطفرات الماركسية السابقة، فإن الطفرة الحالية لا تسعى، خاصة بين المنتقدين، إلى العودة لأيديولوجية ماركسية خالصة. بل هي مدفوعة باعتقاد راسخ بأن نقد ماركس للرأسمالية يظل موردًا حيويًا لتحليل تقلبات وعنف المجتمع المعاصر، وربما يكون أساسيًا لأي بحث عن نماذج بديلة. فالصعوبات الاقتصادية، وإخفاقات الرأسمالية (كالأزمة المالية 2008)، ومخاوف اللاعدالة الاجتماعية، وتدمير البيئة، كلها عوامل تدفع القراء والناشطين والأكاديميين إلى إعادة قراءة كتابات ماركس.
ويساهم كتاب “كارل ماركس في أمريكا” لأندرو هارتمان إسهامًا كبيرًا في فهم هذه التقلبات والمنعطفات الدورية في الاهتمام بماركس. على مدار خمسمائة صفحة وتسعة فصول، يوثق الكتاب ببراعة الاستخدامات المتنوعة لماركس من قبل القراء الأمريكيين منذ منتصف القرن التاسع عشر. يؤكد هارتمان أن “استقبال ماركس في الولايات المتحدة هو تاريخٌ لليسار والوسط واليمين، وأحيانًا معًا. لقد كان ماركس بمثابة منبرٍ للأمريكيين من جميع الخلفيات السياسية التي يُمكن تخيّلها”.
مقاربات متنوعة لماركس في أمريكا
يفترض هارتمان أن الأمريكيين حددوا موقفهم من ماركس بثلاث طرق رئيسية عبر الزمن:
الإخلاص لنظريته الكلاسيكية حول العمل: وقد تبناها شخصيات بارزة مثل يوجين ديبس، إليزابيث جورلي فلين، أ. فيليب راندولف، وبيرني ساندرز.
مبتكرو ماركس الهجين: الذين كيّفوا الماركسية لتتناسب مع “مجموعة متنوعة من الأوضاع الأمريكية”، عبر مزجها بتقاليد مثل المسيحية، الجمهورية، الشعبوية، البراغماتية، القومية السوداء، الهوية الأصلية، الكينزية، والنسوية.
التفسيرات السلبية: التي تعكس “الدرجة الاستثنائية التي شكّلت بها معاداة الشيوعية الولايات المتحدة”.
تفضيل “ماركس العمل القديم” ونقد الابتعاد عن المادية
رغم أن هارتمان لا يبدي اهتمامًا كبيرًا بالإجابة على أسئلة حول طبيعة الماركسية، إلا أن هناك تلميحات في كتابه تشير إلى ميله لقراءة محددة لماركس. يبدو أنه يرغب في عودة “ماركس العمل القديم”، الذي هُمّش مع بداية القرن الحادي والعشرين. على سبيل المثال، في قسم “ماركس ما بعد الحداثة؟” ينتقد هارتمان الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لتحويله مادية ماركس إلى تحليلات خطابية للغة، معتبرًا ذلك “أحد أعراض تخلي اليسار الفكري عن الاهتمامات المادية لصالح الاهتمامات الثقافية والنصية المُجردة”. يرى هارتمان أن هذا التهميش لـ “ماركس نظريته الكلاسيكية في العمل” في عام 1993، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، كان بمثابة استسلام للرأسمالية.
يتجلى تفضيل هارتمان لشخصية ماركس هذه في تحليله لكتاب “الإمبراطورية” (2000) لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري. فبينما استلهم المؤلفان من ماركس الثوري، فقد اعتقدا أن الرأسمالية قد تجاوزت نموذجه. يرى هارتمان أن هذا النوع من اللامادية الذي تبناه هاردت ونيغري وغيرهما كان “بلا فاعلية سياسية”، حيث “أظهر اليسار الأمريكي في مطلع الألفية الجديدة حساسيات متجذرة في تقليد يساري أخلاقي… لكن في مواجهة السيادة النيوليبرالية، أثبت اليسار الأخلاقي ضعف كفاءته”.
مستقبل الرأسمالية وماركس
من المثير للاهتمام أن “ماركس العمل القديم” يعود ليظهر في نهاية نص هارتمان، مع ملاحظة تزايد وعي الطبقة العاملة وشعبية النقابات. ومع ذلك، يتردد هارتمان في التنبؤ بما إذا كان هذا سيؤدي إلى ثورة اشتراكية ديمقراطية تنهي الرأسمالية في أمريكا، حيث يكتب بتردد: “قد نعيش، أو قد لا نعيش، في ظل الرأسمالية المتأخرة”. وهو يشارك الرأي الذي عبر عنه فريدريك جيمسون وسلافوي جيجيك ومارك فيشر بأن “تخيّل نهاية العالم أسهل من تخيّل نهاية الرأسمالية”. يرى هارتمان أنه إذا انتهت الرأسمالية، فإن ماركس سيرحل أخيرًا، مؤكدًا حقيقة يكشفها التاريخ الطويل لاستقبال ماركس: “ما دامت الرأسمالية قائمة، فلا سبيل إلى قتل ماركس”.
ربما يكمن الدرس السياسي لـ “كارل ماركس في أمريكا” ليس في تاريخ قراءاته الفكرية، بل في استخدام ماركس، هنا والآن، لإنهاء ازدهار وكساد الرأسمالية، وبالتالي دفنه. وكما تذكرنا غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك في كتابها “ماركس العالمي؟”: “ما معنى أن نعرف ما كتبه ماركس؟… والمهمة الإضافية هي محاولة تغيير العالم”. إن ممارسة هذه النظرية الماركسية، وطرد شبح ماركس الكامن، من شأنه أن يصاحب نهاية الرأسمالية، وربما تحقيق مبادئ ومثل المشروع الأمريكي التي وعد بها منذ زمن طويل، والتي تمت أعاقتها للأسف.
(4)
حول المقالة الثانية
ماركس في أمريكا: تحليل لظاهرة عودة الفكر الماركسي
تتناول هذه المقالة مراجعة كتاب “كارل ماركس في أمريكا” للمؤلف أندرو هارتمان، والذي يسلط الضوء على “الطفرة الرابعة” في الاهتمام بالفكر الماركسي داخل الولايات المتحدة. يؤكد المقال أن هذا العمل هو الأفضل حاليًا في مجاله، حيث يقدم نظرة شاملة وسهلة الفهم لتاريخ الفكر الماركسي الأمريكي، متجاوزًا الأعمال السابقة.
الماركسية: شبح في الآلة وفكر أساسي
يؤكد هارتمان على أن الماركسية تشكل ركيزة أساسية في الفكر السياسي الأمريكي، ليست دائمًا كتقليد صريح، بل كـ “شبح في الآلة” (4) يؤثر بقوة، وغالبًا بشكل معارض، على الأمريكيين من جميع التوجهات السياسية. يرى هارتمان أن غياب ماركس الصريح يمنحه تأثيرًا ضمنيًا وواسع النطاق، فـ “فهمنا لأمريكا كما تطورت عبر القرن العشرين مدعومٌ بماركسٍ خفي”.
في ظل “الخوف الأحمر” المُعاد تنشيطه حاليًا، أصبحت الماركسية أكثر وضوحًا مما كانت عليه منذ عقود، رغم صعوبة العثور على الماركسيين أنفسهم. ويشير المقال إلى بيان إدارة ترامب الأخير الذي يدعو إلى “سحب التمويل من أجندة الماركسية المُسيئة”، مبرزًا أن هذا النوع من التعبئة ضد “بزوغ فجر أحمر جديد” ليس بالأمر الجديد، بل له جذور تاريخية تعود إلى إضراب السكك الحديدية عام 1877 وتصريحات شخصيات مثل آلان بينكرتون.
دورات الازدهار والكساد الماركسي
يصف هارتمان عمل الماركسية في أمريكا كدورة من الازدهار والكساد، على غرار نمط الإصلاح ورد الفعل. يحدد الكتاب أربع طفرات ماركسية:
1. العصر المذهب (5) : تميز بالتفاوت الجذري وتنظيم العمال، مما أدى إلى مواجهات عنيفة مع رأس المال والدولة. تلاها “خوف أحمر” وقمع حكومي في فترة الحرب العالمية الأولى.
2. الكساد الكبير: دفع إلى عودة سريعة لماركس مع شعور بأن نهاية الرأسمالية أصبحت قريبة، مدعومًا بزخم الصفقة الجديدة. تبعه “خوف أحمر ثانٍ” في أواخر الأربعينيات والخمسينيات.
3. حركة اليسار الجديد في الستينيات: كجزء من موجة ثورية عامة، قبل أن تُخمدها فترة ريغان.
4. الفترة الحالية: بدأت مع الأزمة المالية لعام 2008 وحركة “احتلوا وول ستريت”، حيث عادت الماركسية كأيديولوجية لكنها رافقتها حملة جديدة من التخويف السياسي.
ويرى هارتمان أن كل طفرة أو كساد يصاحبه تجسيد مختلف لماركس، يجد كل جانب من جوانبه مناخه السياسي الفعال.
تحديات وتناقضات في تحليل هارتمان
على الرغم من إنجازات كتاب هارتمان، يورد المقال بعض الملاحظات النقدية. يشير إلى أن هارتمان، كباحث تحليلي، يقدم عرضًا مرتبًا للشخصيات والتقاليد، لكنه أحيانًا ما يركز بشكل مفرط على الكتب كمصدر جوهري للتراث الماركسي، مما قد يؤدي إلى إغفالات غريبة أو إدراحات محيرة. فعلى سبيل المثال، لا يناقش الكتاب ماركسية الفهود السود ، أو تأثير الماوية، أو ردود الفعل الماركسية الأمريكية على الاضطرابات الدولية الكبرى، بينما يخصص مساحة لنقاد الماركسية من اليسار الجديد.
كما يُشار إلى أن محاولة هارتمان إبقاء التركيز على أمريكا تُخطئ أحيانًا، نظرًا للتأثيرات الخارجية الكبيرة على الماركسية في الولايات المتحدة، وأن العديد من الماركسيين الأمريكيين البارزين كانوا مهاجرين أو لاجئين. ويُلاحظ غياب شخصيات مؤثرة مثل لويس ألتوسير، بينما يتم مناقشة شخصيات أقل مركزية في الفكر الماركسي مثل وارد تشرشل.
الماركسية في أمريكا: تاريخ غير مؤسسي
يبرز المقال التوتر بين النهجين الشخصي والمدرسي في كتاب هارتمان، وهو نتاج التوتر الكامن في البلاد تجاه الماركسية نفسها. فبالمقارنة مع بقية العالم، لم تشهد الولايات المتحدة حزبًا شيوعيًا جماهيريًا أو حزبًا سياسيًا يساريًا صريحًا وناجحًا على نطاق وطني. ورغم وجود سياسيين ماركسيين متحولين، إلا أن ردود الفعل العنيفة ضد الماركسية بعد الحرب العالمية الثانية اكتسبت أهمية سياسية أكبر بكثير من النظرية المحرضة نفسها.
لهذا السبب، يخصص هارتمان جزءًا كبيرًا من كتابه ليس للماركسية والماركسيين الأمريكيين في حد ذاتهم، بل للقوى السياسية والمثقفين الأقوياء المناهضين للماركسية. ويعني هذا أن الكتاب قد يبدو أحيانًا وكأن عنوانه الأنسب هو “مناهضة الماركسية في أمريكا”.
يُشدد المقال على أن تاريخ الماركسية في الولايات المتحدة ليس تاريخًا مؤسسيًا، حيث لم يتجاوز الحزب الشيوعي الأمريكي ذروته 75 ألف عضو في عام 1947. ورغم تأثير الماركسية القوي على الحركة العمالية الأمريكية في العصر الذهبي، إلا أن النقابات تراجعت عن رواية هارتمان بعد الحرب العالمية الثانية، لتصبح الماركسية محصورة في المجال الفكري البحت، ولم تنشط كأيديولوجية تعبئة سياسية إلا بعد الأزمة المالية لعام 2008.
ماركس الطفرة الرابعة: نحو حركة ديمقراطية جماهيرية
في النصف الأول من الكتاب، الذي يمتد من الحرب الأهلية وحتى الحرب العالمية الثانية، يقدم هارتمان سردًا روائيًا لسنوات بطولية للماركسية في الولايات المتحدة، مظهرًا كيف اقتربت الولايات المتحدة من حركة ماركسية جماهيرية. ويستمتع هارتمان بتفاصيل كيف مزجت العديد من التجمعات الشعبية الماركسية بالاتجاهات المحلية، مما أدى إلى ظهور “ماركس هجين”، كما في أوكلاهوما حيث فاز الاشتراكيون بـ 175 منصبًا في عام 1914.
مع تقدم الكتاب، يصبح هارتمان أكثر سيرة ذاتية، راسماً مساره الفكري الخاص ضمن التراث الماركسي، والذي بدأه من خلال فرقة “ريج أغينست ذا ماشين”.(6) يشير هارتمان إلى أعمال مثل “ماركس على الهامش” لكيفن أندرسون، الذي يركز على كتابات ماركس اللاحقة التي طرح فيها أفكارًا جديدة ومراجعات لنظرياته.
تُمثل هذه المجموعة من العلماء، التي يضمها المقال مع هارتمان، ماركس المهتم بالبيئة والجمهورية والانخراط العالمي والمفتوح مع أشكال الحياة البديلة. يهدف هذا التوجه إلى بناء الماركسية كحركة وحزب ديمقراطي جماهيري من خلال المشاركة السياسية الانتخابية والثقافية. يختتم المقال بالإشارة إلى أن كتاب “كارل ماركس في أمريكا” يمثل بداية لبناء سردية حول كيفية بدء جيل من المثقفين الأمريكيين بتحليل تاريخ الماركسية في الولايات المتحدة لا كفشل، بل كتقليد مستمر، وأن الحاضر يمثل لحظة تاريخية بالغة الأهمية في تطورها يمكننا المساهمة فيها، “ففي النهاية، ليس لدينا ما نخسره”.
(5)
ملاحق
1
كريكوري جونزكاتز هو مؤرخ أمريكي متخصص في التاريخ الفكري والثقافي، حاصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الأمريكي من جامعة ويسكونسن-ماديسون عام 2016. تشمل مجالات اهتمامه التاريخ الثقافي الأمريكي، تاريخ التعليم العالي، والتاريخ العالمي للعلوم الإنسانية.
عمل جونز-كاتز في مؤسسات أكاديمية مرموقة، حيث شغل منصب زميل بحث في مركز الدراسات المتقدمة بجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونيخ، وزميل دولي في معهد العلوم الثقافية في إيسن، وأستاذ مساعد في جامعة مدينة هونغ كونغ-شنتشن. منذ عام 2023، يعمل كباحث مشارك في معهد الأدب العام والمقارن بجامعة غوته في فرانكفورت.
أصدر كتابه الأول بعنوان “تفكيك: مؤسسة أمريكية” عن منشورات جامعة شيكاغو، حيث يستعرض فيه تاريخ حركة التفكيك في الولايات المتحدة، مركّزًا على دورها في تشكيل الفكر الأكاديمي الأمريكي وتداخلها مع قضايا الجندر والعرق.
بالإضافة إلى عمله الأكاديمي، يساهم جونز-كاتز في الكتابة النقدية، حيث نشر مقالات في مجلات مرموقة مثل Foreign Policy وBoston Review، متناولًا مواضيع مثل تأثير الثقافة الرقمية على السياسة، أهمية النظرية الفرنسية في الفكر المعاصر، وتاريخ الماركسية في أمريكا.
تجسد أعماله جسرًا بين التاريخ الفكري الأمريكي والنقاشات العالمية حول الثقافة والهوية، مما يجعله شخصية بارزة في مجال دراسات العلوم الإنسانية المعاصرة.
2
ماثياس فيولينغ هو مؤرخ وعالم أكاديمي يركز أبحاثه على التاريخ السياسي والاقتصادي، وهو حاليًا مرشح دكتوراه في التاريخ بجامعة تمبل، حيث يعمل على دراسة التخطيط الاقتصادي في تشيكوسلوفاكيا في أربعينيات القرن الماضي. يُعرف فيولينغ بمقالاته النقدية والفكرية التي تتناول مواضيع معاصرة مرتبطة بالتاريخ والسياسة، خاصة تلك المتعلقة بالماركسية واليسار.
في يونيو عام 2025، نشر فيولينغ مقالًا بعنوان “The Marxists Are Coming” في مجلة The Baffler، تناول فيه تاريخ الماركسية في الولايات المتحدة الأمريكية، موضحًا كيف أن الماركسية في أمريكا تمر بدورات من الصعود والهبوط تشبه النمط الكلاسيكي لصراع الإصلاح والردة، مما يعكس طبيعة النضالات الاجتماعية والسياسية الأمريكية عبر الزمن.
بالإضافة إلى ذلك، يكتب فيولينغ مقالات نقدية متعددة، مثل مقاله الذي ناقش فيه الاقتصاد القاسي للعلاقات الحميمة في العصر الرقمي، مسلطًا الضوء على تأثير التطبيقات الرقمية على الحياة الشخصية. كما استعرض في مقال آخر تاريخ نضالات العمال من أجل الاشتراكية البلدية في المدن حول العالم، ما يعكس اهتمامه المستمر بالتاريخ الاجتماعي والسياسي وعلاقته بالماركسية كتيار فكري.
يتميز فيولينغ بأسلوبه التحليلي الذي يجمع بين المعرفة التاريخية العميقة والرؤية النقدية للنظريات السياسية والاقتصادية، مما يجعله صوتًا بارزًا في النقاشات المعاصرة حول الماركسية ودورها في العالم الحديث.
3
شكّل حزب الفهود السود واحدة من أبرز الحركات الثورية في تاريخ الولايات المتحدة، إذ جمع بين النضال من أجل الحقوق العرقية والسياسات الطبقية الراديكالية. نشأ الحزب في قلب الستينيات، وهي فترة مشحونة بالاضطرابات الاجتماعية، وتبنى رؤية ماركسية-لينينية واضحة، مع تأثر قوي بتجارب حركات التحرر في العالم الثالث وأفكار قادة مثل ماو تسي تونغ وفلاديمير لينين.
تأسس الحزب في مدينة أوكلاند، كاليفورنيا، على يد هيوي نيوتن وبوبي سيل. كانت رؤيته تنطلق من قناعة راسخة بأن التغيير الجذري لا يمكن أن يحدث إلا عبر الصراع الطبقي، حيث يتم تفكيك بنية الرأسمالية واستبدالها بنظام اشتراكي عادل. اعتمد الحزب على المادية الجدلية في فهم الواقع وتحليل التناقضات الاجتماعية، ودمج بين القومية السوداء والاشتراكية الثورية، معتبرًا أن تحرر السود لا يمكن فصله عن تحرر جميع الطبقات المضطهدة.
أحد أبرز إنجازاته الفكرية كان “برنامج النقاط العشر”، الذي شكّل وثيقة ثورية تُحدّد المطالب السياسية والاجتماعية للحزب. هذه المطالب شملت توفير السكن اللائق، التعليم الحقيقي، إنهاء عنف الشرطة، كفالة الدخل، وتحرير السود من الاستغلال الاقتصادي. كان الخطاب واضحًا: “الاستغلال الاقتصادي هو جذر كل ظلم، وإنهاء الرأسمالية شرط أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية”.
رؤية الحزب لم تكن حبيسة الخطاب القومي فقط، بل تجاوزت ذلك إلى تبني موقف أممي طبقي. لم يرَ نفسه مجرد حركة سوداء، بل طليعة ثورية لجميع الشعوب الملونة والطبقات العاملة ضد الإمبريالية. قال بوبي سيل ذات مرة: “نقاتل الرأسمالية بالاشتراكية، والإمبريالية بالاشتراكية الدولية”.
تأثر الحزب أيضًا بشكل كبير بالفكر الماوي واللينيني. استلهم قادته من نضالات شعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتبنّوا مفاهيم مثل “خدمة الشعب” و”حرب الشعب طويلة الأمد”، مما جعلهم جزءًا من التيار الثوري العالمي في ذلك الوقت. ومع ذلك، لم يكن الحزب كتلة أيديولوجية صلبة، بل ضمّ تيارات فكرية متعددة اجتمعت على هدف مشترك: مقاومة الاضطهاد بكل أشكاله.
تميّزت الحركة أيضًا بتطبيق نظرياتها على أرض الواقع من خلال برامج البقاء المجتمعي. لم تكن الماركسية شعارات فقط، بل أصبحت أدوات عملية لبناء واقع بديل. من بين هذه البرامج: وجبات الإفطار المجانية للأطفال، العيادات الصحية المجانية، حملات التوعية، ودوريات مراقبة الشرطة من قِبل المواطنين. هذه المبادرات هدفت إلى تمكين المجتمعات السوداء والفقيرة من خلال تلبية احتياجاتها الأساسية خارج إطار الدولة الرأسمالية.
لكن رغم التنظيم الصلب والحضور الشعبي، واجه الحزب تحديات كبيرة. عانى من المركزية المفرطة والصراعات الداخلية، ووقع في فخ عسكرة العمل السياسي في بعض الأحيان. كما تعرّض لحملة قمع شرسة من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) ضمن مشروع
“COINTELPRO”، الذي سعى إلى تفكيك الحركات الثورية من الداخل.
4
في المشهد الأمريكي، يطل كارل ماركس كفكرة غريبة أحيانًا، وأليفة في أحيانٍ أخرى؛ كـ “شبح في الآلة”—مصطلح فلسفي نقدي استخدمه جيلبرت رايل ليصف الفصل المصطنع بين العقل والجسد، لكنه هنا يُستعار لوصف وضع ماركس في الثقافة الأمريكية: حاضر بغيابه، يطلّ من زوايا غير متوقعة، ويُستدعى كلما اهتز النظام الرأسمالي من الداخل.
5
والعصر المذهب (أو Gilded Age بالإنجليزية) هو فترة من تاريخ الولايات المتحدة امتدت تقريبًا من أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر حتى نهايات التسعينيات، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى عنوان رواية مارك توين وتشارلز دودلي وارنر الصادرة عام 1873 The Gilded Age: A Tale of Today التسمية تعكس فكرتها العامة: “طبقة ذهبية رقيقة تغطي باطنًا أقل قيمة”، أي المظهر اللامع للفخامة يخفي تحته فسادًا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا
6
فرقة ريج أغينست ذا ماشين Rage Against the Machine تعتبر واحدة من أكثر الفرق الموسيقية ثورية وتأثيرًا في التاريخ الحديث فقد تأسست عام 1991 في لوس أنجلوس وضمت أربعة أعضاء رئيسيين هم زاك دي لا روشا كمغني رئيسي وتوم موريلو كعازف غيتار وتيم كومرفورد على الباس وبراد ويلك على الطبول وقد جمعت الفرقة بين أنماط موسيقية متعددة مثل الروك البديل والهيب هوب والميتال والفانك لتصنع صوتًا غاضبًا ومليئًا بالرسائل السياسية
اسم الفرقة نفسه يشير إلى مقاومة الأنظمة القمعية التي تمثلها الآلة أي الدولة الرأسمالية والعسكرية والإعلام الموجه والشركات العابرة للقارات وقد تميزت الفرقة بخطاب ماركسي راديكالي واضح تأثر فيه أعضاؤها خاصة زاك وموريلو بحركات تحررية مثل الزاباتيستا في المكسيك والفهود السود في أمريكا كما دعمت الفرقة نضالات العمال والسود والسكان الأصليين وكانت صوتًا فنيًا للمهمشين والمقاومين حول العالم
لم تكن موسيقى ريج مجرد تعبير فني بل كانت ممارسة سياسية مباشرة حيث رفضت عروضًا تجارية وانتقدت صناعة الموسيقى نفسها كما شاركت في احتجاجات كبرى ورفضت أن يتم استخدام أغانيها في سياقات تفرغها من مضمونها الثوري ومن أبرز أغانيها كيلينغ إن ذا نايم التي أصبحت شعارًا عالميًا ضد عنف الشرطة وبولز أون باريد التي تنتقد الصناعات العسكرية وويك أب التي تشير إلى قمع الحكومات للحركات الثورية وغوريلا راديو التي تهاجم الإعلام الموجه.
بفضل هذا المزيج النادر بين القوة الموسيقية والوعي السياسي أصبحت فرقة ريج أغينست ذا ماشين أكثر من مجرد فرقة بل تحولت إلى حركة ثقافية تمثل الغضب الشعبي وتعيد تعريف دور الفن في زمن السيطرة واللامساواة.