في مشهد عجيب، وقدرٍ من أقدار الله الماضية، وفي توفيق ربّاني فريد من نوعه؛ تقفز القطّة الجزائريّة على صدر إمام جزائري هو الشيخ وليد مهساس (إمام مسجد أبي بكر الصديق في الجزائر) خلال صلاة التراويح، فتعامل معها بكلّ عفوية ولطفٍ ورأفة ورحمةٍ وإنسانية؛ مسترشداً بتعاليم رسول الله ﷺ وهديّ الصحابة في التعامل مع هذا الحيوان الأليف؛ فإنهن من الطوافين والطوافات. وذكرنا بقصة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، والذي كان محبّاً لقطةٍ يلاعبها ويداعبها ويعتني بها، حتّى لقّب بها، فكُني بأبي هريرة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يناديه بأبي هرّ، فاشتهر بهذه الكنية أكثر من اسمه الحقيقي عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني (رضي الله عنه).
ولقد أراد الله تعالى بهذا المشهد الإنساني من الشيخ وليد المتواضع الخاشع المتمكّن من تلاوته وحفظه، أن يرفع ذكرَه، وأن تصل آية من آيات الله إلى مئات ملايين البشر للاستماع إليها، حيث تجاوزت متابعات فيديو الشيخ وليد والقطة مليار وستمائة مليون مشاهدة خلال يوم واحد، فسبحان الله على قضائه وقدره.
وإذا كان هدهد سليمان (عليه السلام)، جعله الله سبباً في هداية مملكة سبأ بملكتها التي قالت في نهاية القصة: ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل: 44]؛ فإن القطّة الجزائرية جعلها الله سبباً في مشهد درامي عالمي حقيقي بعيدٍ عن التمثيل والتصنّع في بساطة الإمام، وفي قوة حفظه، وروعة خشوعه، ونُبْل أخلاقه في تعامله مع هذه القطة التي جعلها الله سبباً في نشر هذا المقطع للشيخ التّالي، والقطة المسبِّبة، والآيات المتلوّة؛ إلى أكثر من مليار إنسان على وجه المعمورة.
إنَّ الآية الكريمة التي تلاها الإمام تبيّن أن المشركين سيحتجُّون على شركهم وتحريمهم ما أحلَّ الله بالقضاء والقدر، وسيجعلون مشيئة الله الشاملة لكلّ شيء من الخير والشر، حجة لهم في دفع اللوم عنهم، وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه.
فقد أخبر الله تعالى أنَّ هذه الحجة لم تزل الأمم المكذبة تدفع بها عنهم دعوةَ الرسل ويحتجّون بها فلم، تُجد فيهم شيئاً ولم تنفعهم، فلم يزل هذا دأبهم، حتّى أهلكهم الله، وأذاقهم بأسه، فلو كانت الحجّة صحيحة؛ لدفعت عنهم العقاب، ولما أحل الله بهم العذاب؛ لأنه لا يحل بأسه إلا بمن يستحقه، فعُلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، وهي قولهم: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148].
لقد كانت حجتهم فاسدة وشبهتهم كاسدة من عدة أوجه:
منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة لم تحلّ بهم العقوبة.
ومنها: أنّ الحجة، لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، فأما إذا كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص، الذي لا يغني من الحق شيئا، فإنها باطلة، ولهذا قال: ﴿قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا﴾ فلو كان لهم علم، وهم خصوم ألداء، لأخرجوه، فلما لم يخرجوه علم أنه لا علم عندهم. ﴿إن تتبعون إلا الظنَّ وإن أنتم إلا تخرصون﴾ ومن بنى حججه على الخرص والظن، فهو مبطل خاسر، فكيف إذا بناها على البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها: أنّ الحجة لله البالغة، التي لم تُبق لأحد عذرا، التي اتفقت عليها الأنبياء والمرسلون، والكتب الإلهية، والآثار النبوية، والعقول الصحيحة، والفطر المستقيمة، والأخلاق القويمة، فعلم بذلك أنّ كل ما خالف هذه الأدلة القاطعة باطل، لأن نقيض الحق، لا يكون إلا باطلا.
ومنها: أنّ الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة، وإرادة، يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجبَ الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر، ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أنّ الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعاً لاختيارهم، فإن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا كفّوا. وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كلّ أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلاً في مشيئة الله، ومندرجاً تحت إرادته.
ومنها: أنّ المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك. فإنّهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك، واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.
فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه. ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟
ومنها: أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصوداً، ويعلمون أنه ليس بحجة، وإنما المقصود منه دفع الحق، ويرون أنّ الحق بمنزلة الصائل، فهم يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلام وإن كانوا يعتقدونه خطأً.
إنّ قصة القطة والإمام؛
جمالها أخَّاذ،
ورسالتها عظيمة،
وآثارها ماضية وفق مشيئة الله وأقداره،
وهي ردٌّ على الذين يُشوّهون سير وأدوار الخطباء والفقهاء والعلماء في مقالاتهم الباطلة، ومسلسلاتهم الهابطة.
(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) الحج:38
(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ اِلَّا هُوَۜ وَمَا هِيَ اِلَّا ذِكْرٰى لِلْبَشَرِ۟) المدثر: 31.
وهذه اللفتة النورانية، تبين أنّ الرافع هو الله وحده، والخافض هو الله وحده، والمعزّ هو الله وحده، والمذلّ هو الله وحده. قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17].
إن أحفاد ابن باديس والبشير الإبراهيمي وعلماء الجزائر الأجلاء (رحمهم الله) على نهج القرآن سائرون، وبدين الله تعالى متمسكون، وبقلوبهم وجوارحهم وعقولهم يرجون رحمة الله تعالى ويخافون عذابه.