23 ديسمبر، 2024 7:19 ص

قِبْلة الإسلام السياسي في البوصلة العربية !

قِبْلة الإسلام السياسي في البوصلة العربية !

معترك الازدواجية في القيم الفكرية التقليدية النمطية بين ؛النَسب والدين؛ والتي تأصلت وتعمقت في الوعي اللاادراكي بالمجتمعات الشرقية عبر قرون من النصوص والمدونات والثوابت والفتاوى والهالات المعصومة والمقدسة والمرجعيات الكهنوتية قد حجزت ومنعت النفوذ الى اقطاب خارجة عن منظوماتها العقائدية والقومية ولم تفلح كل المحاولات الاصلاحية في وضع ولو ملامح لقواعد فكرية لمفاهيم وتعاريف سياسية تخرج عن الانماط الموروثة التي تم التسليم لها من داخل البنيوية الشخصية للفرد العربي المسلم بينما تنامت تلك المنظومات التقليدية لكي تديم سلطة الاستبداد التي تأسست قبل اكثر من مئة عام بعد ان رُسمت الحدود الجغرافية على الارض واصبحت دول وكيانات حدودية تدار من ملوك وامراء بدون ان يصاحب ذلك رسم فكر سياسي ملائم فأبتدأ الصراع بين التقليد والتحديث حين أسمعت اصوات المدافع من به صمم .. فظهرت الحركات التي استطاعت ان تحرك الاسلام سياسيا من منظور مذهبي (الاخوان) وكذلك ظهرت الحركات القومية التحررية فمُسخت اي تطلعات يمكن ان تحدث انقلابا جوهريا مفصليا بالارتقاء بالمنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وكل احزاب المعارضة والثورات والانتفاضات التي انطلقت كانت تقليدية ولم تنطلق من فكر ثوري معاكس للموروث النمطي بل ابقت عليه بحجة التحرر ومقاومة الاستعمار والامبريالية وبشعارات الاستهلاك (الاسلام هو الحل) و (امة عربية واحدة) فاستعرت حركة التيارات والاحزاب والادلجة المستوردة الجدلية التنظيرية في اظلم نفق فكري كلّفَ الكثير من الثروات والموارد البشرية والاقتصادية ناهيك عن التخلف المعرفي والانتاجي وعمل على خلق بيئة حاضرة مهيئة للصراع وبصورة ديناميكية تتحرك فيها بؤر القطعان وقطع الشطرنج حسب الاوامر التي تديم الحاكمية الشرعية لسلطات اقليمية تأخذ من العقيدة والقومية مرجعية لها ومن محاور داعمة مرتكزا لإبقاء المصالح العالمية.
ووفق رؤى واستراتيجيات معقدة يتم تدوير الادوار بعد ان تستهلك بعضها وتصبح عالة لا مكان لها بالصراع وهذا ما حصل بعد ان سقطت ورقة التوت وكُشفت عورات الدكتاتوريات المخضرمة بانها ليست دول وانما حكومات طاغية وصورة لشموليات متهرئة لم تؤسس كيان دولة بمؤسسات ومنظومات اقتصادية وامنية متطورة ولم يكن لها اي مرجعيات فكرية استراتيجية وانما ارتجاليات وارتدادات عشوائية فبانت السوءات بالمشاهد المخجلة التي اطاحت بسلطة الزعامات التي كانت تبحر في غيها كونها قيادات تاريخية عظيمة لها طموحات تتعدى حدود الواقع ولكن بقراءات غير دقيقة للمنظومة الاقليمية والعالمية ومدى تفاعلها بالمنطقة؛ ومع ان هذا السقوط التاريخي لم يكن مبرمجا الا انه استطاع ان يؤشر بامكانية حدوث التغيير من خارج الحدود وهذا بحد ذاته منحى سياسي خطير حيث اسس الى هلع وفزع كبير في الدول التي لم تتأثر بالربيع العربي الفوضوي والذي ادى الى اعادة القراءات بصورة دقيقة في كيفية الحفاظ على السلطة وحمايتها وماهو بديل القطع التي أسقطت البوصلة العربية عن الاتجاهات الفكرية والسياسية في الاوساط النخبوية والعامية بالمستوى التقليدي والحداثوي على حد سواء وقبرتها غير مأسوف عليها الى اجل غير مسمى وباتت تاريخ اسود جثم على المنطقة لعهود طويلة؛ ادى هذا السقوط الى اختلال التوازن في النظم السياسية التقليدية وخوفا من ظهور تيارات جديدة على الساحة برزت بشكل تصعيدي مدعوم ظاهرة الاسلام السياسي باقطابه المختلفة؛ الولائي والاخواني والتكفيري والجهادي؛ لكي تحافظ الانظمة التقليدية على سلطانها باشاعة الخراب والاحتراب في البلاد التي نالها التغيير بعد عام 2003 من هنا بدأ التنافس على اشده لإستقطاب تلك الجماعات المسلحة من اجل توظيفها سياسيا وتعبويا وسلطويا وبالتاكيد لابد من وجود مرجعيات عقائدية لاضافة الشرعية المطلقة للتحرك بهذا الاتجاه من اجل تجاوز القواعد القانونية والاعراف والمواثيق الدولية والبروتوكولات الدبلوماسية ومن اجل تخطي الحدود بحرية تامة وجعل ساحة الشرق الاوسط معتركا متعدد الاطراف والولاءات والاجندات والتبعيات والمحاور فالبوصلة العربية لم تعد كافية من اجل توجيه الاسلام السياسي باتجاه قبلة واحدة وصارت من الامور البديهية ان توجه بعض الاحزاب والزعامات قبلتها باتجاه المحور الشرقي الولائي بدون اي توجس للمفاهيم او القيم الوطنية وتجاهر علنا بامكانية تسقيطها لدول قائمة وفي المقابل تعمل جماعات اخرى في محاور متعاكسة ولها غايات واهداف اخرى وهذه حروب فاعلة بالنيابة عن الدول التي لا يمكن ان تتخلى عن النظم السياسية التقليدية مما ادى الى تعاظم دور الجماعات المسلحة ودور ما يسمى بالمرجعيات وعلماء الامة ودور الافتاء باصدار فتاوى القتل والتكفير والتحشيد واباحة دم الاخر بعنوان الجهاد بمجرد الاختلاف بالمذهب او بالدين او بالعقيدة او حتى بأي شئ اخر كالاشتباه بموالاة الاخر من مجرد مقالة او رأي فيما يجري؛ فأي امة عظيمة اخرجت للناس علماء يأمرون بالقتل والسبي والتهجير وكل الاعمال الهمجية الجاهلية والتي يعيدها التاريخ تباعا منذ القرون الاولى وكيف يمكن تفسير هذا الاختلاف بانه رحمة؟ .. فاختلطت الاوراق بشكل معقد وصار من الصعب تعيين القبلة التي تستقر عليها البوصلة وصارت تلك الجماعات اداة فاعلة ودويلات في الظل متقلبة الانتماء عقائديا وسياسيا وصاحب ذلك تكالب الدول التي كانت ولا زالت استراتيجياتها تقوم بالدعم المادي واللوجستي والبشري لها فخرجت عن حدود السيطرة بشكل خطير لانها تجردت من اي عقيدة او دين او عرف سياسي من اجل الاستحواذ ومد النفوذ الى ابعد منطقة مهما كانت النتائج وهذا نكوص ومنحدر خطير في الفكر والنظم التي تعرّف وتحدد العلاقات بين الدول المتجاورة وبالتاكيد سيؤدي ذلك الى نتائج وخيمة على شعوب المنطقة وأمنها القومي وقيمها الاجتماعية والحضارية فلا امل ان يجري الشرق الاوسط عبر هذا الاختلال في بنى المنظومات السياسية الى مستقر له في المنظور القريب .
والابحاث الاستقرائية ترى انه خلال العقدين المقبلين سيتعاظم صعود ظاهرة الاسلام السياسي عقائديا ولوجستيا ومن خلال السيطرة عليه ستبدا اكبر عملية استنزاف فوضوية لموارد الشعوب المادية والبشرية ولكن الخطر الجسيم يكمن في الانحراف الفكري عن القيم الحضارية والتي ستصاحب عملية الاستنزاف لانتاج اجيال من الخراب المنفلت ضمن منظومات معقدة عقائديا قد تتشكل بدون اي مقومات فكرية لتأتي بنا الى تنظيمات ذات ايديولوجيات مشوهة متشابهة تستقطب فئة الشباب التي تعاني من فراغ فكري وعدم وجود منظومة اصلاح اقتصادي واجتماعي في البيئة التي تنتمي اليها؛ والخوف ان يتم تقبل الافكار بشكل فطري وكلٌ يرى انه مع الحق وغيره مع الباطل مع اختلاط المفاهيم والازدواجية الفكرية التي سوف تكون نتيجة الاحتراب المزمن المتلازم والذي سيمحق الارادات الوطنية لتتحرك ضمن مسميات اخرى؛ وسيكون من الصعب تفكيك تلك المفاهيم لخلو الساحة من اي بوصلة فكرية فاعلة قادرة على استيعاب المعطيات باتجاه التنمية البشرية الواعية؛ وكل المفاهيم ستاخذ مبدا التضاد فلا يمكن التفريق بين مفهوم المقاومة والعمالة؛ الممانعة والمهادنة؛ التطرف والارهاب؛ القتال والجهاد؛ الاستشهاد والانتحار؛ الولاء والانقياد؛ التقليد والتسليم؛ التعظيم والتقديس وغيرها من التي ستتحكم بالعقل الجمعي التعبوي والتحريك الشعبوي المليوني وما سيصاحبها من شعارات وشعائر من خارج الاطر المالوفة والتي يراد منها التسويق للمنظومات التقليدية والابقاء على سلطتها الشرعية الفوقانية التي لا ترتبط باي معادلة قانونية او دستورية وفق المعايير الدولية الحديثة .
والحقيقة التاريخية التي يتغافل عنها المطلعون الا قليلا هو ان الصراع السياسي قد رافق الفكر الاسلامي منذ القرون الاولى وحتى قبل بداية التاريخ الهجري واصبح منهجا يستغل الدين من اجل الصعود للسلطة؛ وعلينا الاقرار بان كل المذاهب والعقائد والحركات كان تاسيسها من منطلق سياسي وليس عقائدي وكل ما رافق ذلك من مدونات وصياغات وقراءات فقهية هي بالاصل ذات تبعيات سياسية لازلنا نتحمل تبعياتها الى اليوم الذي نرى فيه تدوير تلك الصراعات بالاتجاه العقائدي؛ ولم نستطيع الخروج من هذا الخازوق الذي ضرب التاريخ الفاضح بسبب عدم صعود قيادات فكرية تخرج عن مفهوم التقليد؛ وكل الذين ظهروا هم قيادات وزعامات سياسية ودينية ارتبطت عقائديا بالموروث المتناقض المتخالف والذي نرى نتاجه بعد كل تلك القرون؛ ولكي يبدا المفكرون والباحثون والنخب الخاصة بالتجديد لا بد لهم من اغلاق تلك الصفحات وعدم الانطلاق عبر انتقادها فذلك اشغال غير عقلاني للمفاهيم المنطقية والكف عن الاستغراق في المراجعات والصياغات والتنظير ومحاولات تفسير النصوص بقراءة حديثة لتضاف الى المئات من القراءات التي لم تؤسس الى منهج ثابت وعلى صراط مستقيم؛ فكل مراجعة مهما كانت بسيطة عليها ان تعود الى قرون مضت وهذا عبث وانهزامية فكيف يمكن تحديث الكثير من ايات القتال والجزية والعقوبات بقطع اليد والرجم والجلد هل سيكون بحذفها مع انها ثابتة ازلية مطلقة؟ وكيف يمكن كسر حلقات التدوير في اشكالية الشبهات ورد الشبهات مثل {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الأحزاب آيه 50 ولم يتبين بعد المنهج المادي او الفكري الذي يمكن ان يتبناه ذلك النص وكيف يمكن ان يستفاد منه المسلم المتلقي؟ .. (هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) .. ثم هل علينا ان نؤسس برنامجا عمليا تطبيقيا بالولوج في العمق التاريخي لكي نستعير منهجا بلاغيا لبناء دولة ذات منظومات ومؤسسات عصرية مع العلم ان ذلك المنهج لم يرى النور للتطبيق حين لم يجد من يتفاعل معه في زمانه؟ لابد من التوقف عن متوالية ؛تفاسير تتلوها تفاسير؛ ونحن من خراب الى خراب واذا اردنا فعلا السير في هذا الطريق علينا ان نرد النصوص الخلافية الى اللوح الذي حفظها لكي تعاد الصياغة مرة اخرى حتى لا نضل بعدها ابدا؛ وعلى المفكرين والكتاب الاحرار والمتنورين والمؤسسات البحثية المستقلة ان لا ينجروا الى ما يحدث على الساحة وان يهتموا فقط بما هو مهم وحقيقي وفاعل وان يجدوا لنا بوصلة غير عقائدية ولا ايديولوجية تؤشر لنا قبلة فكرية نهضوية لا تنتمي الى عقدة التأويل والتفسير .