19 ديسمبر، 2024 2:10 ص

قيمة السرد في اكتشاف الذات (الذاكرة والهوية) إضاءة على رواية (قياموت) لـنصيف فلك

قيمة السرد في اكتشاف الذات (الذاكرة والهوية) إضاءة على رواية (قياموت) لـنصيف فلك

-1-
يرتبط الخطاب السردي بالهوية (الهوية الشخصية، الهوية الثقافية، والهوية الإنسانية)، وتظهر قيمة السرد بتسليط الضوء على الذات كونه المحور الذي تتشكل حوله الذاكرة والهوية. الذاكرة بوصفها «الرحم» الذي تولد منه الهوية، والمكان الخصب الذي تبدأ فيه بالنضوج من مرحلتها الأولى (الهوية الشخصية) وصولًا إلى (الهوية الإنسانية)، أتحدث عن السرد ليس بوصفه مجالًا لتجاوز الواقع الموضوعي، وإنما بوصفه المرآة التي تعكس صورة الواقع الذي يشكل جزءًا من تكوين الذوات، والذاكرة الجمعية. وهنا لا يمكننا أن نتجاهل أن الذاكرة الفردية تلعب دورًا في تصحيح أو تشويه الذاكرة الجمعية. هذه العملية التي تلقي بظلالها على طبيعة الهوية ككل.

وعلى كل ما تقدم تظهر أهمية السرد باعتباره أداة اكتشاف الذات، وأداة تكوين المكان الخصب – الذاكرة – لتحقيق ولادة صحيحة للهوية، ومن باب المسؤولية أسترشد بمقولة الكاتبة أمل العايذي (كلنا مسؤول لخلق ذاكرة جمعية صحيحة بالاستعانة بالذاكرة الفردية، والتجارب العالمية في تدوين الذاكرة الفردية سواء كانت أدبية أو فنية غالبيتها تكللت بالنجاح، لمّ تحمله من صدق في الصورة أو العبارة).

-2-
السرد هو عنصر القصة المراد تقديمها إلى جمهور القراء، وهو محور العمل الأدبي للرواية، ومن خلاله – أي السرد – يمكن للرَّاوي أن يشد القراء إليه عبر موضوع الرواية، إضافة إلى تقنيات السرد الفنية. وهنا تظهر أهمية السرد من حيث إنه تقنية فنية لتمرير موضوع الرواية، وخلق آراء حولها. الكثير من القراء لا يلتفتون إلى موضوع الرواية من حيث «درجة المصداقية» بقدر ما يعجبه الأسلوب التقني في القص والحكاية، هذا ما يقع فيه بعض القراء. ومن هنا تبدأ عملية خلق «الهوية والذاكرة الجمعية» بالاستناد على «الذاكرة الفردية» للرَّاوي مع الاعتقاد بأن كل ما طرحه صحيح لا يقبل الشك!

هذه التقنية يستخدمها الكثير من كتّاب الرواية في كل بقاع العالم، واستخدمها بعض الكتّاب العراقيين؛ لإيهام القراء بأن ما بين أيديهم ليس عملًا أدبيًا بقدر ما هي أحداث حقيقية أو صورة من واقع هش مكنتّه قدرته الأدبية على تجميعها وصياغتها بأسلوب أدبي مميز، إنها عملية مقصودة من خلال استغلال السرد لتحريف الواقع عن صورته الحقيقية، ومحاولة لتطبيع القراء بآراء الرَّاوي . مؤكدًا أن هذا ينم عن قصور فكري أو تراكمات لمرحلة عصّيبة عاصرها الرَّاوي ولدت لديه حقدًا على «هوية» المسبب والأصل في كل ما وصل إليه، متناسيًا أن أهمية العمل الأدبي تكمن في تحقيق انعطافه حقيقية – إيجابية – لدى القارئ، وتقديم عمل أدبي يتصّف بالإنسانية، ومتطابق مع الذات السليمة.

«قياموت» رواية للروائي العراقي «نصيف فلك» أعتقد ومن خلال اهتمامي بالسرد، أنها متكاملة من حيث أسلوبها الفني، لكنها قاصرة على تحقيق الذات، وفي كثير من المواضع عمدت على تشويه الذاكرة، وبذلك قدمت صورة مشوهة عن «الهوية»، وأيّة هوية؟! الجواب على هذا السؤال يمكن معرفته من خلال العودة إلى الرواية، وفيها يظهر بوضوح كامل أن الرَّاوي أقحم نفسه في موضوع لطالما كان بعيدًا عنه، وهذا ما يبدو جليًا من خلال روايته السابقة «خضر قد والعصر الزيتوني» وبذلك سقطت المسؤولية خلف سرد مشوه.

الإضاءة هنا لا تتضمن الوقوف على جماليات السرد، إنها إضاءة على موضوع القص من حيث إنه قاصر على تحقيق ما كنا نتمنى تحقيقه كون الرّاوي ذا ميول يسارية، والمعروف عن اليساريين ابتعادهم عن طرح أحادي الجانب، خاصةً عندما يكون هذا الطرح «إثنو – طائفي».

يمكن تحديد زمن الرواية من عام 2003 أي بعد سقوط نظام البعث واجتياح العراق إلى عام 2009، ومعروف أن هذه السنوات كانت عصيبة على جميع العراقيين باختلاف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم؛ نتيجة لحالة الموت اليومي، و المفخخات والاقتتال الطائفي. فما هو الدافع من إقحام سوريا في حوار بسيط كان يمكن للراوي أن يستغني عنه كون سوريا لم تكن تعاني مما تعانيه اليوم في ذلك الوقت «لذلك عمدت أمريكا إلى كنس مجانين القيامة من كل دول العالم، وألقوا الزبالة هنا عندنا وفي سوريا». – الرواية، ص 244.

تبدأ الرواية بفصلها الأول «شاشة مسدّس» يقدم نصيف الشخصية المركزية في الرواية «برعم» يسكن حي «الحسينية» يستيقظ على صراخ أحدهم يبشر بقيام يوم القيامة، وبعد ذلك يتلقى «برعم» رسالة تهديد بالقتل، ومتطرقًا إلى بعض الشخصيات المعروفة في ذلك الحي، ومتحدثًا عن حالات الاغتيال والاختطاف التي تقوم بها «جماعات الثقوب السوداء» في المنطقة وفي ساحاتها، بأسلوب أدبي جميل . أما الفصل الثاني «نغولة العقيدة» فيتحدث فيه عن قسوة الحر في شهر أغسطس (آب)، وحالة السخط التي يعيش فيها الإنسان العراقي، وكذلك يتحدث عن سرقة «الشوارع» متهمًا على لسان أحد شخصيات الرواية «جماعات الثقوب السود» بالسرقة، هنا لا يبين لنا الرَّاوي ما هي خلفية تلك الجماعات – الخلفية العقائدية – هل هي جماعات «سنية» أو «شيعية» أو تسمية عمومية على كل من يمارس القتل من كلا الطرفين؟ انتقل إلى الفصل الرابع «قناص الفرقان» والمراد منه هو قناص فوق جامع الفرقان يقع الجامع في منطقة الصليخ الجديد، ومن ذلك الجامع يصف الرَّاوي عملية اغتيال «شرطي مرور» أثناء تأديته الواجب على جسر الصليخ، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الجامع تعرض مثله مثل باقي الأماكن الدينية إلى أعمال عنف وتخريب، تحديدًا سنة 2006؛ نتيجة لحالة الاقتتال الطائفي يومئذ. ويظهر بأن الرّاوي علم من أهالي المنطقة بوجود القناص على سطح الجامع، وأنه يقتل حسب مزاجه العقائدي والجهادي، كما يقول، (وهنا يبدأ بكشف الخلفية العقائدية لهذه الجماعات) «صار عندنا بديهة أن أكثر الأماكن إثارة للرعب والهلع هي الجوامع، فيها يتم تصنيع العبوات الناسفة وتفخيخ السيارات، وخلف المحراب والمنبر السجن، وغرف التعذيب تتوسطها باحة واسعة للذبح يتم فيها تصوير عملية الذبح بعد قراءة آيات من القرآن وبيان المجاهدين». ص 42.

في الفصل التاسع «خيانة الضحية» يستمر الرَّاوي بذكر عمليات الإعدام التي تتم في ساحة «الطوبى» في حي «الحسينية» من قبل جماعات الثقوب السوداء، وعن لجوء هذه الجماعات إلى نوع جديد من الاغتيال باستخدام «مسدسات كاتمة» بعد أن ظهرت مجموعة «صعاليك القيامة» التي عملت على تصفية تلك الجماعات، ولكن نتيجة خطأ قامت به جماعة «صعاليك القيامة» فقد الناس ثقتهم فيها؛ مما أدى إلى تنامي عمليات «الثقوب السوداء»، في هذا الفصل يورد الروائي نصيف، حادثة ذبح الموسيقي (وحيد الله سعدي) وزوجته من قبل ذباحة الثقوب السوداء، وجيء بهم من مدينة «الفلوجة» (إنها إشارة أخرى على تحديد خلفية تلك الجماعات وإعطائهم الصبغة المذهبية)، «وهكذا اختبأ الذباحون الثلاثة من جماعات الثقوب السود القادمين من مدينة الفلوجة في بيت (طارق عبد الرحمن)، واختصاص هؤلاء الثلاثة هو الذبح بفصل الرأس عن الجسد بتقنيات السيف الشريف في العلم السعودي» ص 114. ويتحدث أيضًا عن عملية قام بها «صعاليك القيامة» بمساعدة من «عمر» صديق (طارق عبد الرحمن)، فألقوا القبض على الذباحة الذين يرتدون الزي الأفغاني وأخذوا منهم اعترافات عن أماكنهم في مدينة الفلوجة»، «…انقضوا عليهم يضربونهم بأخمص البنادق وقيدوهم للخلف، وبدأ التحقيق معهم وانتزاع الاعترافات؛ حتى أفرغوهم من كل المعلومات عن معسكرات تدريب لجماعات الثقوب السود على تفخيخ السيارات، وصنع العبوات الناسفة في الحي العسكري في الفلوجة . وأخذوا عناوينهم في أي حي وشارع من مدينة (الفلوجة)، وعن رفاقهم القتلة في الأعظمية والغزالية وشارع حيفا، والمصيبة الربانية أن (صعاليك القيامة) الأربعة اكتشفوا أن الحواضن الآمنة لجماعات الثقوب السود هي الجوامع والمساجد، التي تحوي ورش تفخيخ السيارات والعبوات، وتنطلق منها فرق الاغتيالات والإعدامات والخطف وتوزيع القناصة فوق منارات الجوامع» ص 117. لا أعرف لم كل هذا التوسع في الشرح من قبل الروائي نصيف؟! السؤال: كيف تسللت هذه المجاميع لمناطق ذات أغلبية «شيعية» وأخذت تعدم وتغتال وتخطف أمام الناس وبكل وقاحة دون أن تكون هنالك جماعات مضادة تمثل تلك الطائفة؟! أعتقد أنه تجنٍّ واضح ودس مقصود، لا أريد أن أنحاز لطائفة على حساب طائفة أخرى، ولكني أطرح هذا كون الروائي كما قلت «يساريًا تقدميًا»، لو كان غير نصيف لما كان هذا الحديث.

في الفصل الثاني عشر «في الميدان يبيعون أحشاء التاريخ» يورد نصيف فلك قصة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة، ويتحدث عن اغتصاب خالد لزوجة مالك، ومن ثم حادثة قتل خالد لمالك، ووضع رأس مالك وقودًا لعشاء خالد. هنا يظهر شيء آخر بأن نصيف أخذ الحادثة من جانب واحد، ولم يأخذها من جانبها الآخر أو الرأي الآخر، ألم يكن من الأفضل أن ينأى نصيف عن ذكر هذه الحادثة؛ لأن المسلمين غير متفقين على هذه الحادثة، منهم من يقول كما يقول نصيف، ومن يقول عكس ذلك تمامًا، أنا لا أعرف ما الهدف من وراء دسها في الرواية؟!

أما في فصل «حلاق عقول – ص 193» فيتحدث نصيف فلك عن حادثة خطف تقوم بها جماعات الثقوب السود، وحالات اغتصاب، وقتل، يقوم بها رجل يدعى «أبو حفصة التونسي».

خلاصة القول إن نصيف فلك لم يكن منصفًا؛ كونه شخصًا يساريًا، بعكس الواقع على شاكلته الحقيقية، وإنما عمد على إلصاق كل عمليات القتل والدمار والخطف والتفخيخ والذبح إلى طائفة واحدة، وتطهير الطائفة الأخرى، وبذلك استغل السرد لتشويه الذاكرة وتحريفها عن مسارها الصحيح معتمدًا في ذلك على هويته الفردية، وأنا هنا لا أدافع عن الطائفة المتهمة برأي أستاذنا نصيف فلك؛ لأني على يقين بأن كلتا الطائفتين اشتركتا في حرب ظلامية ألقت بنتائجها على حياتنا؛ مما عمدت على تشويه ذواتنا، وبالتالي تشويه هويتنا الإنسانية.

كنت أتمنى أن يكون السرد في «قياموت» قوة حياة يحقق العلاقة ما بين الهوية الذاتية بالهوية السردية وصولًا إلى العلاقة التفاهمية مع العرق والملة التي ينتمي إليها الفرد دون إقصاء الآخر أو الشعور بالتفوق على الآخر وعدم وقوعها في نزعة فردوسية الأنا وشيطانية الآخر مثلما يصفها بول ريكور .

-3-
يبقى السرد وقود حياة الأمم شرط أن يكون ذا مصداقية كاملة في نقل الصورة وإعادة صياغتها دون حذف أو تشويه، لتبرز هوية مغايرة للهويات الفرعية في مرحلة طغت فيها الهويات الفرعية وسببت لنا العديد من المصاعب وعرضتنا للكثير من الخسارات. قيمة العمل السردي تكمن في مضمون الرسالة الإنسانية التي يحملها كواجب إنساني تجاه قضايا الأمة المصيرية غيرها قابل للزوال في أية لحظة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات