مشروع السياب الشعري، كما غيره من الموهوبين، اعتمد على الوعي واقترن بالتجربة، أما من أراد أن يكون حداثياً بالادعاء والنيات والصوت العالي، فلم يترك أثراً وانتهى إلى غياب.
لو توقفنا عند هذا العدد الكبير، بل الكبير جداً، من تعاريف الحداثة، حركةً ومصطلحاً، التي تتناول أكثر من جانب من جوانب الحياة الفكرية والجمالية والواقعية، لكان بإمكاننا اختصارها في القول إنها تجاوز القديم والثابت والمكرر، واستبداله بالجديد والحيوي والمتحول، والحداثة فعل تطوير الفكر والواقع، وكل ما هو جمالي وإبداعي.
وإذا كانت الحداثة، مصطلحاً وحركةً، قد ارتبطت في بداياتها بالتاريخ الأوروبي تحديداً، وبتحولاته، فقد انفتحت في ما بعد على أفق أممي، واقترنت بهذه الصيرورة، إحالة إلى الفكر والإبداع، وهذا ما سأقف عنده في ما أكتبه اليوم.
وما سأقوله هو رأي رأيته أو اجتهاد اجتهدته، قد يكون صائباً، وقد يكون على مسافة من الصواب، وهذا الرأي أو الاجتهاد نتيجة قراءات متواصلة عن الحداثة، تأتي بأفكار قد تتقاطع، غير أنها تثير أسئلة تنشط الذهن.
وفي تفاعلها مع الواقع تكون موقفاً يفصح عن وعي، على أكثر من صعيد، وبخاصة على الصعيدين الفكري والجمالي، ليتمثل المتغيرات الحياتية ويعبر عنها إبداعياً، وقد يشتغل هذا الوعي ليرصد متغيرات مستقبلية ويبشر بها.
إن القول بالتبشير لا أقصد منه المعنى المباشر له، بأدواته اللغوية، وإنما هو تبشير بمتغيرات جمالية في الإبداع، تسبق متغيرات في الواقع.
إن الحداثة رؤية مرحلية، أي أنها تعبر عن مرحلة، وهي لا تمثل موقفاً سلبياً من الماضي، بل هي مستقبل ذلك الماضي الإبداعي، إذ تمثلته أولاً، وعبرت عن الوعي بالحاضر ثانياً، فكانت محاولة للتعبير عن جوهر متغيرات الحاضر التي تشكل إضافة من خلال التواصل، وليس من خلال القطيعة. إن القول بأن الحداثة رؤية مرحلية، يصدر عن كون إنجازها الإبداعي، حتى في حالة أن يكون بعض الإنجاز الكلاسيكي في المستقبل، فهو سيكون ماضي تحولات قادمة، لها حداثتها أو حداثاتها.
إن وعي الحداثة الذي يعبر عنه مبدعون موهوبون، من خلال أعمال إبداعية مهمة واستثنائية، هو الذي يحرر دعاوى الحداثة من موقفين سلبيين، الأول يرى في الإنجاز الحداثي مجرد لعب شكلي بعيد عن تجربة حقيقية، حياتية وثقافية، والثاني يحوِّل الحداثة كموقف إلى ما هو ثابت، لا يتقاطع مع الماضي فحسب، بل مع متغيرات الحاضر وإرهاصات المستقبل.
يقترف البعض من مدعي الحداثة انحرافاً في الرؤية، إذ يحسب ارتباطه بالحداثة بالنيات فقط، ويحسب كذلك أن هذه النيات تؤهله لإنجاز إبداعي، من دون أن يتوفر على مقومات الإبداع، وعياً وأداة وتجربةً واستعداداً.
أذكر -وكان هذا في أواسط الستينات من القرن الماضي- أني رافقت أحد الأصدقاء إلى مقهى البلدية ببغداد، ولم أكن دائم التردد عليه، ووجدنا عدداً من الأدباء الشباب أيامذاك، فالتحقنا بمجلسهم، وكان الحديث عن الشعر والتجديد، وقادنا الحديث إلى ما يمثله السياب من حضور في التجربة الشعرية الجديدة، وإذا بأحد الحاضرين ينتفض باستعلاء قائلاً: إن مرحلة السياب قد انتهت وما عادت لها أهمية فنية، ونحن نشهد الآن مرحلة شعرية جديدة، وما نكتبه يمثل قصيدة المستقبل.
إن المتحدث فاجأني بما قال، لأنه عبر عن رؤية سطحية، فبعد كل السنين التي مرت مازال السياب حاضراً في التلقي والحوار والنقد والتاريخ الأدبي، أما صاحبنا فلا أكاد أقرأ اسمه في كل ما يكتب عن الشعر الجديد، ولم يترك أثراً في فضاء الحداثة الشعرية، لأن مشروع السياب الشعري، كما غيره من الموهوبين، اعتمد على الوعي واقترن بالتجربة، أما من أراد أن يكون حداثياً بالادعاء والنيات والصوت العالي، فلم يترك أثراً وانتهى إلى غياب.
نقلا عن العرب