لا أحسب أن هناك – في عراق مافيات الفساد واللصوصية والجريمة – قناة فضائية تضارع (البغدادية) في خطابها الوطني الملتزم وأسلوبها النقدي الجاد ، كما لا أظن أن هناك من يضاهي نمط اختيارها للمواضيع الساخنة ، وطريفة عرضها للمشاكل المتفاقمة . ذلك لأنها تعتمد أجندة – وشتان بين أجندات نظيراتها – عراقية لا غبار على أصالتها ؛ لحمتها الجغرافية العراقية بكل تضاريسها ، وسداها المجتمع العراقي بجميع أطيافه . ولهذا فإنها تركت منابرها الإعلامية مشرعة أمام مختلف المكونات الاجتماعية ، وقدمت برامجها الحوارية دون حساسيات طائفية أو مسبقات أثنية لشتى الكيانات السياسية ، بصرف النظر عن أصولها القومية ، وخلفياتها الدينية ، ومنطقاتها الإيديولوجية ، وتياراتها الحزبية . ولكونها تحاجج بالوثيقة بدلا”من الادعاء بالكلام ، وتقارع بالوقائع عوضا”عن الاتكاء بالزعم ، فضلا”عن جعلها الوثيقة والواقعة تنطقان بلسان أصحابها الفعليين ، وليس عبر اعتماد صيغة (العنعنة) التقليدية التي حفلت بها كتب تاريخنا المفبرك وتراثنا المؤدلج . ولهذا فقد جعلت من نفسها مصدرا”لاستشاطة غضب السلطات الحكومية بكل مستوياتها من جهة ، ودرئية لهجمات الجاهليات الأصولية بمختلف فصائلها من جهة أخرى ، بحيث لم تجد أفضل من مقولة الأمام (علي بن أبي طالب) كرم الله وجهه ، التي أطلقها كحكمة (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه) شعارا”للاحتكام إليه وملاذا”للاحتماء به ، حيال الضغوطات التي تعرضت لها والتجاوزات التي مورست ضدها . ولكن – وبالرغم من كل المواقف الجريئة والمبادرات الجسورة – هل حققت هذه القناة العراقية مبتغاها وأوصلت رسالتها ؛ إن على مستوى النخبة السياسية الحاكمة أو على صعيد الجماهير المحكومة ؟ ، لجهة القضاء على جراثيم الفساد التي لم تبرح تنهش كيان العراق بلا رادع ، أو تطهير الذهنيات المحشوة بالعصبيات والمدججة بالكراهيات بلا وازع ؟! . بحيث يمكننا أن نتساءل هل إن صوت صراخها المتوجع بات يجد صداه في بنية الوعي الاجتماعي ليرمم تصدعه المتزايد ، أم تراه لم يبلغ سوى مسامع القوم وكأنه صرخة في واد مقفر ؟! . والواقع إن مشاكل العراق ، بلّه ، اشكالياته أصعب وأعقد من أن تتصدى لها قناة فضائية واحدة مطاردة من السلطات ومنبوذة من اللوبيات ، لا يمتلك أصحابها والقائمين عليها سوى الحس الوطني والضمير الحي ، وهو الأمر الذي يجعلها كمن يغرد من خارج السرب . ذلك لأن لغة الخطاب الذي تزجيه لمكونات المجتمع العراقي أصبح غريبا”على مسامعها وشاذا”عن قيمها ، بعد أن أمعن واقعها الاجتماعي بالخراب وأسرفت بيئتها النفسية بالانحطاط . وكما جادلنا في مكان آخر فإن أي خطاب – مهما صدقت النوايا وحسنت الطوايا – لا يجدي نفعا”، في ظل غياب تام للشعور بالمسؤولية الوطنية وانعدام مطلق للحسّ بالواجب الأخلاقي . والمؤسف حقا”إن كادر قناة البغدادية – رغم خبرته الإعلامية وخلفيته الثقافية التي راكمها عبر معاركه اليومية مع رموز الحكومة الفاسدة ومخلوقات العالم السفلي – لم يفطن لحد الآن إلى واقعة انزلاقه صوب شباك تلك الحكومة التي لم يبرح ينتقد أدائها صباح مساء ، وانه بالتالي يمارس لعبتها الشيطانية وفقا”للقواعد التي رسمتها له لا وفقا”للشروط التي وضعها لنفسه . وعلى هذا المنوال فما أن تشرع هذه القناة بفتح ملفا”من ملفات الفساد أمام الرأي العام العراقي ، حتى تبادر تلك الحكومة بتسريب ملفا”آخر أكثر فسادا”وأشد إثارة ، بحيث لا يطغى فقط على تداعيات – إن كانت هناك تداعيات أصلا”- الملف السابق فحسب ، وإنما يجعل من مواصلة الحديث عنه والبحث فيه أمرا”نافلا”لا قيمة له ولا جدوى منه . وهكذا دواليك من ملف وزارة التجارة والبطاقة التموينية ، إلى ملف أمانة العاصمة و(صخرة عبوب) ومنه لملف وزارة الكهرباء ، إلى ملف وزارة الصحة والمستشفيات الوهمية ، ومنه لملف وزارة التربية والبسكويت الفاسد ، وأخيرا”وليس آخرا”ملف محافظة الأنبار وإرهاب جماعة (داعش) والقائمة تطول . ومن منطلق واجبها الوطني وإحساسها الإنساني ، فان قناة البغدادية اختارت لنفسها هذه المرة قضية معقدة ومتشعبة (قضية الأنبار) ، لا يتعلق أمر تسويتها بإرادة الأطراف الداخلية – كما يظن البعض – فحسب ، وإنما لها امتدادات إقليمية ومؤثرات دولية لا يمكن بأي حال من الأحوال وضع حدّ لها ، دون أن يكون لهذه أو تلك رأيا”فيما جرى ومآل فيما سيجري ، وإلاّ فإننا سنثبت للعالم أجمع مدى جهلنا التام بألف باء السياسة ، ونبرهن له على عدم أهليتنا لتحليل عوامل الصراع القائمة . ولذلك فإنها لمفارقة حقا”أن تبادر البغدادية لاستنفار جهدها الإعلامي واستثمار علاقاتها مع بعض من يعنيهم الأمر ، علها تفلح بإيجاد حل لهذه الأزمة / المعضلة السياسية الخطيرة ، بالاعتماد على الثقل الاعتباري لزعماء القبائل وشيوخ العشائر الذين يبدو إن البعض منهم بات يشكل عنصر من عناصر المشكلة وليس جزءا”من عوامل حلها . ومن هذا المنبر نقول لطاقم البغدادية ؛ احذروا محاولات الحكومة لاستدراجكم حيث قضايا وأحداث لا تتخطى فقط قدراتكم وتستنزف طاقاتكم فحسب ، بل وتجعل من دعواتكم الصادقة ومبادراتكم الوطنية ، مجرد أماني طائشة لا تلبث رياح العراق العاصفة أن تذروها بكل اتجاه !! . ولما كان واقع المجتمع العراقي يشكو التهرؤ في كل مجالاته والتمزق في كل قطاعاته ، بحيث لم تعد توجد أية بنية لا على المستوى التحتي ولا على المستوى الفوفي ، يمكن له الاتكاء عليها والشروع منها لاستئناف دورة الحياة الطبيعية فيه ، مثلما ليست هناك أية قوانين طبيعية أو وضعية لا في علاقاته ولا في سيروراته ، يمكن لها أن تلجم صراعاته وتكبح نزعاته من جانب ، وتعيد له ، من جانب ثان ، توازناته وتضبط علاقاته وتلجم صراعاته . فان رهانكم على الدعوات والخطابات الوعظية باتت تشكل عامل إعاقة وتعطيل أكثر منها عنصر انطلاقة وتفعيل ، وهو ما يلزمنا أن ندعوكم – لكي تؤتي جهدكم أوكلها – إلى التحدث بلغة الواقع حتى وان كانت مليئة بالأشواك ، والكف عن خطاب الممكن حتى وان كان مترعا”بالورد . والتعامل بلهجة الملموس حتى وان كانت قاسية على المسامع ، والإقلاع عن تصورات المجرد حتى وان كانت لطيفة على المخيلة ، فالواقع المتخلف لا ينتج إلاّ التطرف ، مثلما إن الوعي المتطيف لا يفضي إلاّ إلى العنف !! .
[email protected]