بمراجعة بسيطة للتاريخ القريب، نلحظ أن العلاقات الأمريكية_ الروسية مرت بمراحل عديدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، واستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، وقد انعكست تداعيات ومآلات تلك العلاقة سواء بالسلب أو بالإيجاب على السياسة الدولية بصورة عامة، وعلى منطقة الشرق الأوسط تحديدا. وهذا كان واضحا منذ تسلم (بوريس يلتسين) رئاسة الاتحاد الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وصولا إلى الرئيس فلاديمير بوتين. ولو تتبعنا مسار القمم الأمريكية الروسية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، كانت عام 1993 بين جورج بوش الأب وبوريس يلتسين، تمت خلال تلك القمة مناقشة الكثير من القضايا العالقة بين البلدين وعلى رأسها قضية سباق التسلح، وكذلك قمة 1997 بين الرئيس الأمريكي في حينها بيل كلينتون وبوريس يلتسين، وأيضا كانت حول سباق التسلح بين البلدين. وفي قمة براغ 2010 بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الروسي في وقتها ديمتري ميدفيديف شهدت توقيع معاهدة (ستارت الجديدة) بين البلدين، والتي تنص على تخفيض الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي. وفي عام 2018 عقدت القمة الأمريكية الروسية في العاصمة الفنلندية هلسنكي بين الرئيس ترمب والرئيس فلاديمير بوتين، وتُعرف أيضا باسم قمة بوتين-ترمب، نافش الرئيسان قضية تحسين العلاقات الثنائية بين البلدين، بعد اتهام الاستخبارات الأمريكية الدولة الروسية بمحاولة التدخل والتأثير في نتائج الانتخابات الأمريكية 2016.
وبعد هذ الاستعراض الموجز لمسار العلاقات الأمريكية الروسية، وبفعل تلك التحولات في الواقع الدولي، الذي أنتج بيئة دولية جديدة، تتمثل بسيطرة الولايات المتحدة عالميا، باعتبارها القوة الدولية العظمى والقطب الأوحد، الذي أدى إلى انعدام التوازن في النظام الدولي. وبهذا أصبحت القمم ما بين البلدين وفق صيغة العلاقة غير المتكافئة بين الطرفين، بمعنى أن كلاهما أو على أقل تقدير الولايات المتحدة الأمريكية لا تعامل مع روسيا بنفس سياستها ما بعد الحرب العالمية الثانية وصعود قوتين عظيمتين، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك نسبة الي تقسيم أوروبا إلى كتلة غربية بقيادة الولايات المتحدة وكتلة شرقية بقيادة السوفييت. إضافة إلى الحرب الباردة بينهما، في سياق سباق تسلح نووي بين القوتين. أما الرئيس الأمريكي جو بايدن قد يتبع نهج سياسة جديد مع روسيا، لكنه سيحتفظ ببعض أوراق الضغط، على سبيل المثال لا الحصر حادثة تسميم المعارض الروسي أليكسي نافالني، والاتهامات التي وجهها مكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) للروس بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت عام 2016 وفاز فيها الرئيس دونالد ترمب.
ووفقا لهذه المقدمة من البديهي أن تحدث تغيرات عندما تتفكك أي منظومة، وعليه سيكون تفسير وتحليل الصراع الأمريكي الروسي وفقا لمنهج فيزياء السياسة أقرب من التاريخ وللأسباب التالية:
1. إن أبرز ما يميز العلاقات الأمريكية الروسية، هو غياب دور الأيديولوجية والعقيدة اللينيّة الماركسية، حيث لم تعد دكتاتورية البروليتارية عاملا مغذيا للسياسة الدولية، كما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية. أي بمعنى التخلي عن المصالح القومية الروسية.
2. وفقا للفقرة (1) لم تعد الإدارة الأمريكية تعامل مع أي رئيس روسي على أنه سكرتير الحزب الشيوعي، فبوتين ليس بريجنيف ولا خروتشوف ولا اندروبوف ولا ستالين، ولا هو القيصر الذي تمنحه الكنيسة الروسية التاج المرصع بطلاسم الثورة البلشيفية.
3. فشل الروس في تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية مع مجموعة دول البريكس BRICS .
ومن هذا المنطلق سأركز فقط على النقاط الأبرز لهذه القمة وكما يلي:
أولا. قضية العراق: الذي حدث هو اندفاع سريع وغير مدروس من قبل أمريكا للعبث في مقدرات منطقة الشرق الأوسط بدأ في أفغانستان ثم احتلال العراق بدون أي مبررات أو مسوغات قانونية دولية تسمح بذلك. بسبب هذا العبث فشلت أمريكا في فرض هيمنتها حيث لم تستطيع سد الفراغ الجيوسياسي الذي حدث بزوال الدولة والنظام السياسي في العراق. وقد تمت تعبئة ذلك الفراغ بحشوه من القوى المتناقضة الذي تسبب تراكمها وتقاطعها مع ارتباطاتها الأيديولوجية بتداعيات جعلت من الساحة العراقية بؤرة استقطاب لكل أجندات التطرف بمختلف اتجاهاتها الفكرية والطائفية. وتحول العراق الى ساحة صراع دولية من خلال حروب الوكالة باستثمار تناقض القوى وتجنيدها وتمويلها من أجل تحقيق أهداف تخدم استراتيجيات الدول الكبرى والإقليمية. وعليه سيحاول الأمريكان بالاتفاق مع الروس ضرورة احتواء الموقف عراقيا كخيار أنسب من التلاعب في مفاصل نظامها الذي تشكلت بموجبه، وهذا ما يُسمّى بالواقع.
ثانا. قضية المحور الروسي الإيراني: في الحقيقة لا يوجد ما يسمى حلف بين روسيا وإيران، وكل ما يربطهما مصالح مشتركة في سوريا وبعض العلاقات الاقتصادية.لاسيما أن روسيا تستخدم إيران في سوريا للضغط على الأمريكان في ملف أوكرانيا، ومتى ما حقق الروس أهدافهم سيبيعون إيران وبشار الأسد. لكن الأهم في هذا المحور هو الاتفاق النووي الإيراني (5+1) أو ما يسمى باتفاق لوزان النووي، حيث لعبت روسيا دورا مهما ومؤثرا في الأزمة النووية الإيرانية، فقد استطاع الروس من خلال هذه الأزمة أن يجدوا لهم موضع قدم وعودة إلى الساحة الدولية. فمن جهة قدمت روسيا الدعم الكبير لبناء مفاعل بوشهر الإيراني، ومن جهة ثانية يحرص الروس على عدم امتلاك إيران للسلاح النووي حفاظا على أمن إسرائيل. بيد أن روسيا تعاملت مع الملف النووي على أساس التوازن بين أمريكا وإيران. تجدر الإشارة إلى أن الدعم الروسي للبرنامج النووي الإيراني بدأ منذ عام 1989 بعد زيارة الرئيس الإيراني رفسنجاني إلى موسكو.
ثالثا. بلا شك إن ملف إسرائيل ودورها الجيوسياسي في المنطقة، سيبقى الأهم بالنسبة لأي قمة أمريكية روسية، لما يؤديه هذا الكيان المغتصب كرأس حربة أو عامل لزعزعة الاستقرار السياسي. من هنا فإن التواجد الروسي في سوريا يمثل قمة الأمان للكيان الصهيوني، من خلال تلقين الروس لبشار الأسد ودوره ضمن معادلات المنطقة. وعليه فإن نظام بشار الأسد لا يشكل خطر على إسرائيل لدرجة اعتبار زواله هو الخطر الحقيقي إذ لا يوجد بديل عنه حاليا يمكن أن يؤمن حدود الكيان الصهيوني.
رابعا. أود أشير إلى مسألة مهمة جدا قد تناقش في القمة، وهي الدعم الروسي للجماعات المتشددة، حيث دخلت روسيا في حرب مع مجموعات محلية مختلفة لسنين عديدة، فبعد حربين دمويتين في الشيشان خاضها النظام الروسيّ ضد الجهاديّين الإسلاميّين التي استمرت من عام 1994م إلى عام 1996م أصبح مركز ثقل المتشددين الإسلاميّين في الشيشان. وفي الفترة التي سبقت الألعاب الأولمبية الشتوية في عام 2014م شجعت السلطات الروسيّة المقاتلين (السُنة)، ودعمتهم على المغادرة نحو سوريَّا لشنّ عمليات جهادية، ثم سهلت لهم الطريق للخروج من بلدانهم، ووفرت لهم السبل الكفيلة للوصول إلى سوريَّا بعد أن قررت روسيا بعدم السماح لهؤلاء المقاتلين بالعودة إلى روسيا مطلقاً.
خامسا. مازال بوتين عينه على الجمهوريات الروسية التي استقالت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
وتأسيسا لما تقدم، لم تعد روسيا قطبا مؤثرا في العلاقات الدولية، أما فيما يخص التدخل الروسي في سوريا فهذه كانت ضمن اتفاقيات دولية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) لكي يبقى بشار الأسد متطفلا يلهث خلف الدعم الروسي لتغذيته، وفي حالة تمت التسوية بين الروس والأمريكان، كما ذكرنا آنفا سيبيع بوتين بشار الأسد والنظام السوري برمته.