المفكرون والمصلحون ومزارع التخلف حول القلاع:
درب اليقظة في أمة كأمتنا تعتمد الخلاصات للفهم وان كان خطأ والاستبسال في الدفاع عن فهمها وان لم يك صحيحا هو درب وعرة تضاريسه خطرة منحنياته عميق جرف مساره ضيق للاسترخاء في الحوار.
فالناس في عصرنا بالذات تكتفي بالمعرفة دونما تمحيص بما لا يجعلها تصنف ضمن الجاهلين لكنها على درجة من سوء التعامل مع المعرفة لتصبح اشد خطرا على الحقيقة واليقظة من الجهل والجاهلين، فالجهل يطرده العلم والجاهل يقضي على جهله الشغف للمعرفة، أما هذا الصنف الأكبر من الأمة فهو عبد هواه مسحور بذاته وأنانية نفسه، معايير قيمته غير معايير البناء أو النشاط والإنتاج وما يقدمه، بل معيار نجاحه هو ما يأخذ لتغطية غرائزه وأهله وليس العطاء، وهذه الأمور تواجه المصلحين بسد طرق النفاذ إلى الناس فلا يملك المصلح إلا الكلمة يقولها أو يكتبها فان كانت معايير الناس مادية فان معارضة المصلح من غني أو صاحب نفوذ أو احد من هؤلاء يطلق فكرة هدامة سيؤدي إلى تصديقه نفسه لكثرة مؤيديه وتصديقه، ومهاجمة الناس لمخالفه وان كان هو تافه والمصلح من نوادر فلاسفة أو مفكري عصره، فالباطل يروج عندما تضعه على لسان شخصية صنمية تمثل الوهم وتخاطب الأحلام في التفكير بلا قواعد العلم أو الواقعية كما طغاة موجودين أو غادروا بعد دمار البلاد والعباد يعظمها الناس لمنصب أو جاه أو قوة أو نفوذ وان كان تافها واعتبار ضدها الباطل عرفا (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)).
الدعاة يأتون بفكر جديد فلا يفهمهم إلا من يفكر
فالحق ودعاته غالبا مسالمون يدعون الناس للتفكير قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)هود، والتفكير متعب فيشتكي البعض من الغموض في الطرح بما يكتب المصلح أو يقول، لهذا نجد قوم المفكر وهم يطلبون ما يوافق أفكارهم وهواهم لكي يؤيدوه مباشرة لا يحبون التفاعل مع هذا المفكر والتعب قليلا في فهم ما يطرح، ويصل الضيق منه عندما يدركون انه يسفه ما قدسوه من ضلال ووهم وضياع فيهاجموه بالتهديد والتسفيه ومحاولة الانتقاص منه ليبرروا الضحالة أو الجهل أو الأنانية وهذا معيق للتنمية واليقظة ولا يوفر بيئة وأرضية للنهضة فيبقى المواطن مهما قدمت الحكومات إن كانت مخلصة لا يتعامل مع الموجودات كأنها ملكه فتسرق وتخرَّب وان كانت فاسدة فسيحاول أن يشبع حاجاته وغرائزه ولا يهتم بالحق والعدل في ضياع القيم.
قلاع التخلف المقدس:
للتخلف قلاع لا تحصى لكن نتطرق هنا إلى بعضها وهي كافية لتخلف الأمة الأبدي:
أولا: الجهاز المعرفي: لأهمية هذا العامل اذكره دائما لانه يقود التفكير والحكم على الأشياء والتحليل والتدبير بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (الزخرف-22)، ( قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُم بِهِۦكَٰفِرُونَ (الزخرف 24)، فمن يناقش الشيخ الفلاني في العصر الأموي أو العباسي أو في عصر الراشدين، صناعة القدوة كما فهموها في تقديس رجال الماضي وجعلهم نماذج لايمكن تخطيئها أوتصويب أحكامها أو حتى الوصول إلى بعض من ميزاتها، فان جئت بحكم افضل ينهض بالواقع ويخالف الاجتهادات لذلك العصر وتغير العصر فاحتاج أن تاتي بالجديد فانهم فورا سيقولون انهم كافرون بما قلت، وانك مبتدع، وهم يقرؤون الآيات ولا يرون أنها تنطبق على سلوكهم المذموم وان الله بالقرآن يضع منهجا وليس يقص قصصا توقيفية بل هي نماذج حسنة أو سيئة.
ثانيا: التقديس للأشخاص
الرموز بشر يتأثر بالتعظيم وهو لا يتصور أن المداهن يعظم الأملفي المكسب وليس للشخص نفسه، مع الزمن تصبح طاعة عمياء أو واعية معماه لاقتضاء الحاجة فيضل بعضهم بعضا، وعندما يتخلون عنهم في الدنيا أو يوم الحساب فهم لا يفكرون بان يعتذروا أو يعكسوا أفعالهم وإنما تظهر الأنا وانتقامهم لأنفسهم إما بإفشاء السر أو الشتيمة أو تعريف أعدائهم بما يمكنهم منهم أو طلب الأذى لهم أضعافا (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)).
الأصنام أو المتمكنون في المجتمع وهم ليسوا رموز في الحقيقة لعلم أو فهم، كلما تغلب أحدهم يسفه من قبله أو منافسه وعلى سيرهم ترى المنافقين ينتقلون من جهة إلى أخرى ركضا وراء مصالحهمويتحدثون وهم مقتنعون بوضعهم الجديد وان ناقض وضعهم السابق، وعند الفشل أو الأفول يقولون إننا كنا مخدوعين بهذا القائد أو ذاك التافه وهو من يحاسب وان حاسبتمونا فعلى الاقل هو يحاسب بضعف الحساب، لكن الاستحقاق واحد وهو حكم الله(ۖكُلَّمَادَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ (38) الأعراف
ثالثا: الرأي السائد الشعبي: عندما تطرح فكرا يستشهد لك بان اتباعه كثر وفهم الناس له كثرة فهل أنت افهم منهم، علية القوم يتبعونه، هذا شخص مشهور ومتخصص، هذا دارس ويتكلم…. الأكثرية ليست معيارا لا بالحق ولا بالانتصار هم لا أدلة عندهم على ما يقولون سوى انطباعات ونقل الكلمات وترديد ما يعتبر دلائل وإثبات ولا تفكر ولا مرجعة ولا استعداد لفهم صحيح {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ}} 116 –الأنعام} ليس هنالك براهين من العلم على ما يزعمون انه من الثوابت وإنما يرددون ما تعلمونه ويخمنون بلا أدلة.
رابعا: الحق يطلب التزاما وتمسكا وتفكير ونشاط وعمل ومسؤولية وهذا جهد لا يكفي معه أن تحمل العلم كأسفار لا تستفيد منها وان تواجه غرائزك وحاجاتك وعواطفك في العدل والإنصاف، والباطل لا يلزم بكل ما سبق، بل يخدر الضمير حتى يميته.
هذه بعض مثبطات اليقظة والتنمية وهي تحتاج معالجة في نفوسنا جميعا لانها تذهل كالسحر فتتبعها وتعمي البصيرة فلا تدركها، وتتجاوز الشطط في الإنسان فتستعبده بالحرية، ولو كل منا شخصها في نفسه وقضى عليها لكانت الأمة بخير.