18 ديسمبر، 2024 7:10 م

منذ عهد الطفولة اعتادت أسماعنا على جملة تتردد على ألسنة الآباء والأمهات وهم يقولون إن فلاناً قطع سبيل المعروف ، مشيرين بذلك إلى إنسان واجه الإحسان بالجحود والنكران .
ومع تتابع سنوات العمر وتوالي التجارب وجدت في سلوك نكران الجميل واحداً من أشد أنواع السلوك إيلاماً، فتراكم في نفسي شعور الألم جراء موقف هذا أو ذاك ممن يضافون إلى قائمة ناكري الجميل السوداء ، وبالمقابل يتصاعد شعور التقدير لكل من يعبّر عن الوفاء والعرفان لموقف وقفته معه يوماً ما .
ولعل ما يضاعف شعور الحزن والأذى أن موقف ناكر الجميل لا يقف عند نسيان الإحسان بل يتعداه إلى شعور المحسِن بأن إحسانه هو الذي جرّ عليه الأذى والحسرة !.
في سنواتنا الأخيرة تكررت مواقف نكران الجميل مع تداول الأيام بين الناس وتبدل الظروف والأحوال .
وأنا أكتب سطوري هذه متأثّراً من جحود ( أحدهم ) تتتابع وقائع النكران التي تختزنها ذاكرتي .
قبل أكثر من أربعة عقود ، في ظروف الخير في بلدنا ، يوم كثر الوافدون للعمل فيه، أذكر أن مؤسسات الدولة أخذت تمنع سفر العاملين العرب فيها حين تكون ذممهم مدينة لجهة العمل إلاّ بعد كفالتهم من كفيل عراقي لضمان عودتهم والوفاء بما عليهم ؛ فجاء أحد الموظفين العراقيين متطوعاً لكفالة زميله العربي في العمل، الذي ينوي السفر لقضاء إحازة في بلده، وعند سؤاله عما إذا كان مطمئناً إلى عودة المكفول ، كان رده أن شعور العروبة وكون زميله العربي ضيفاً يدفعه إلى كفالته مطمئناً ؛ لكنه ما لبث أن عاد منكسراً متحسراً بعد أشهر حين انقطعت أخبار زميله العربي ذاك الذي اقترن نكرانه الجميل بالخداع والإستغلال ! ؛ وثمة رجل رهن عقاره لكفالة ابن صديق له رشّح للإلتحاق ببعثة خارج الوطن ، ثم اختار المبعوث الهجرة وعدم العودة، فوجد الكفيل المتفضّل نفسه مديناً للدولة بمبلغ الكفالة ؛ وثمة آخر كان في موقع مسؤولية مهم دعم أحد أقاربه وهيّأ له فرصة الدخول إلى ميدان عمل تغيرت معه حياته من عسر إلى يسر وانتقل من زوايا الإهمال إلى دائرة التأثير ، وحين تقاعد هذا المحسن لم يجد من قريبه ذاك إلا النكران الذي لا يتّصف به إلا عديمو الأصل والخُلُق ؛ والأمثلة على هذا كثيرة .
في كل مرة تدفعنا نوازع الطيبة إلى مد يد العون لآخرين ونصاب بالخيبة والإحباط بفعل تنكّرهم للجميل نعاهد النفس في لحظة انفعال على عدم مد يد العون من جديد لأحد، مبررين العزوف عن الإحسان بانقطاع سبيل المعروف بفعل من لم يكن أهلاً للإحسان .
ثمة من يداري خيبة الأمل بترديد مثل عامّي دارج “سوّي زين وذِب بالشط “!، وهو مثل أراه ساذجاً لا ينسجم مع وجوب نشر قيم الوفاء والإستجابة للنداء الإلهي الذي جاء في القرآن الكريم بصيغة السؤال الدالّ على النفي ” هلْ جزاءُ الإحسانِ إلّا الإحسان”، ووعي الحكمة في قول الإمام علي عليه السلام “المعروفُ كنزٌ ، فانظرْ عندَ منْ تُوْدِعُه “، وقول زهير بن أبي سلمى في معلّقته :
ومن يجعلِ المعروفَ في غير أهله
يكنْ حمدُهُ ذمّاً عليه ويندمِ
لكل من ذهب إحسانه سدىً ووجد نفسه ضحية لمن لعب دور المسكين بإجادة حتى فاز بمعروفه ثم جحد وتنكّر له أقول – وقبل ذلك أقول لنفسي – :
إشحذ بصيرتك، ولتصاحب فطنتك نية الإحسان ولتضع من يرجو إحسانك في ميزان الأخلاق وحُسن الطويّة كي لا تقعد بعدئذٍ ملوماً محسورا .