كانت تركض  إلى نهايتها  كقطرة شمع تسابق ذوبانها، وكل خطوة منها كانت تسرّع شيخوختها. حاولتُ أن أوقفها، أن أصرخ في وجهها “توقفي!” لكنها لم تلتفت. كانت تلك روحي، تفرّ منّي، وأنا ألهث خلفها دون أن أعرف كيف أستعيدها.

قلتُ لنفسي: ربما إن أعَدْتُ لها الذاكرة، ستتذكر، فتفرح، فتنطفئ شيخوختها، وتعود كما كانت… فامتطيتُ بها صهوة الذكريات، متعبًا، وطرقتُ أبواب المدائن البعيدة، بشوارعها وقطاراتها التي احتوت خطاي وحقائبي ذات يوم.

كانت شابة حين ألقيتُ بها هناك، في بحرٍ لا يعرف الرحمة. قلتُ لها: “اسبحي”، فسبحت، لكن الأمواج كانت عاتية، تقاذفتها بين قلقٍ وغربةٍ وحنينٍ ووحشة. وادركت متأخرا انها لم تكن تجيد السباحة في ذلك البحر العنيد، ولم أكن أعرف كيف أعلّمها.

اليوم، عدتُ بها إلى الطرقات التي مشتْها، إلى المساكن التي احتضنتها، إلى الأرصفة التي بكتْ عليها، وقلتُ لها: “هنا كنتِ تضحكين احيانا، وهنا كنتِ تحلمين، وهنا كنتِ تكتبين أسماءكِ على الجدران.” لكنها لم تبتسم. كانت تنظر إليّ بعينين غريبتين، كأنها لا تعرفني.

طوّقتها الذكريات، فذابت… ذابت كشمعة في ظلامٍ دامس، لا نور فيه ولا دفء. لم تعد تلك التي أعرفها، ولا تلك التي حلمتُ بها. كانت شيئًا آخر، شيئًا يشبهني ولا يشبهني، شيئًا كان مني ثم صار غريبا عني.

في تلك اللحظة، عرفتُ أن الأرواح لا تُستعاد، وأن الركض نحو الذكرى لا يوقف الشيخوخة، بل يسرّعها. وأن الحنين، مهما كان نبيلاً، لا يعيد الزمن، بل يفضح هشاشة الحاضر.