23 ديسمبر، 2024 6:23 ص

خيّرني أن أكون معه أو لا أكون .                                         
أخترتُ وحدانيتي، هي أنسبُ لي من أن أغدو تابعاً له.                                                       
المسافةُ بينا شاسعةٌ، ودربانا لا يلتقيان.                                    
مضت القاطراتُ تحملُ أناسها وغلالها، فيما جثوتُ على نشزٍ ارنو الى المشهد. بلا مبالاة يسيلُ نظري على مرئياته، ثمّ.. حدّثني هاجسي أنّي أقترف خطيئة، حين يتركُ آخرُ قطار أرضَ المحطة، سأبقى وحدي يُداهمني الليلُ والبرد والجوع، فهذا الثلاثي من ألد أعداء الغريب . الغربة ُجحيمٌ معزولة مقرونة بكيمياء الرهبة. لا أدري مَنْ منحني تلك القوة لأعدو واتشبثَ بباب عربة الحمل، تسلقته ، رميتُ فيها جذعي. في الركن الأقصى أمرأةٌ تحتضن طفلها. لم أطلْ فيهما النظرُ. بل ألقيتُ كاهلي في زاوية بعيدة وغشيني النوم، فما استيقظتُ أبداً.                              
ولجتُ سوقاً خالياً من أناسها، فوهاتُ الدكاكين مفتوحة، واصحابُها نيامٌ، بل سمعتُ شخيرَ بعضهم. أين الناسُ؟ رمت شفتاي السؤال. توقفتُ أمام بائع المرايا ، عشرُ منها تحدّقُ فيّ، وأنا عشرة أشخاص متشظينَ لا يُشبهُ أحدُهم الآخر. ثمّ… خرجوا من سطوع مراياتهم ، خاضوا عراكاً فيما بينهم ، وجندلَ بعضُهم بعضاً، لم يبق سوى واحد هو أنا. تُرى مَنْ كان اولاء التسعة الاُلى اختفوا. جُلتُ في السوق طولاً وعرضاً حتى عراني التعب ، أغمضتُ عيني اختلسُ بعض راحة، لكني وجدتُني لم أزل في تلك المحطة القاحلة. بيدَ أني حثثتُ خُطاي ، صعدتُ الى عربة فيها مقاعدُ فارغة واناسٌ رمقوني بلا مبالاة ، انصرفوا الى شؤونهم : الحوار الهاديء، القراءة ، البحلقة في الخارج ، الاغماضة التي تُريحُ العينين. تحرّك القطارُ. ولا أدري بعدئذ ٍ الى أين مضيتُ.                                                 
عدتُ الى التدريس ثانية، بعد غياب طويل. تغيّرت الأساليبُ والرؤى، وتغلغلتِ الحداثة ُ في مفاصله، فهل تغيّرتُ أنا؟ بدءاً بحثتُ عن قاعتي، جلتُ مراراً ، بيد أن احدى القاعات كان يسودها هرجٌ عال، ولجُته، لم يعرني أحدٌ اهتماماً، أمسكتُ بكمّ أحدهم وأجلسته على مقعد، هذا ليس مكاني صرخ.. سيكون مكانك منذ الأن، وجدتُه أكثرهم شكساً. ران الصمتُ ، بدأ كلّ واحد يهمد في مقعده. انتظرتُ لحظات، عدتُ اليه، وضعتُ بمحبة يدي على كتفه: أين تريدُ الجلوس؟ نظرني بهدوء، ابتسم : مكاني مُريح ، شكراً أستاذ. ما بقي من الوقت لا يكفي لألقاء مُحاضرتي، لهذا كرّسته للمناقشة والتعارف. كسبتُ مودتهم، ذي بداية جيدة . طرحتُ أسئلة ً فحظيت بأجوبة معقولة، ورموا عليّ سؤالات عصيّة ً يرومون احراجي ، بيد أني خيّبتُ ظنونهم واجاباتي حاضرة ومقبولة. مرّ المديرُ أمام الباب فاستغرب، ثمتئذ ٍ عرفتُ أنْ لا أحد استطاع تهدئتهم، بل قرّر أغلاق هذا الصف.                                                  
يوماً عراني وجعٌ في ظهري ، اتصلت بمُديري وطلبتُ أجازة: لا.. انا أمنحك إياها، خذْ ما تشاءُ.عصراً تكدّسوا أمام بابنا، جاءوا لزيارتي.    
مرّ العام الدراسي وكنتُ مُتفوقاً على أقراني، في امتحانات البكالوريا، كانت نسبُ النجاح لدى طلابي في القاعات الأربع مئة بالمئة ، وأقل درجة حظي بها أحدُ الطلاب ستٌ وسبعون في المئة. تلقّيت كتب الشكر من جهات عدة. أمضيتُ بقية سنواتي يصعدُ بي مجهودي من موقع الى أعلى, حتى تقاعدتُ، غدا أغلبُ طلابي أصدقائي وهم الآنَ من أعيان  البلد، فما أسعدني حين أراهم يقبلون نحوي، وأنا في المقهى ،
ليحيّوني. ويسألوني عن صحتي وعمّا أحتاجُ.