19 ديسمبر، 2024 2:44 ص

قصيدة النثر وإنتاج المعنى..!؟

قصيدة النثر وإنتاج المعنى..!؟

في دراسته المعنونة “بنية الرمال المتحركة.. بحث في غموض قصيدة النثر للشباب العراقيين” يرى د. عبد الكريم راضي جعفر  أن قصيدة النثر لا تلتقط أنفاس قصيدة الشعر الحر حتى في نماذجها الأكثر حداثة ويذهب إلى أنها- قصيدة النثر- جنس شعري من حقه أن يتنفس  طالما امتلك (القدرة) على ذلك (مجلة الأقلام- مايس/ حزيران/ 2008). والمسألة الأساسية هنا تكمن، فيما احسب، في مفهوم و مستوى (القدرة) ذاتها، وفي فضاءات التحكم بها،وكيفية الاستفادة منها ،عبر الإمكانات الشخصية، الثقافية-الفنية، لشاعر قصيدة النثر.  بينما يرى الأستاذ سلمان داود محمد في ذات العدد (ص18 )أن قصيدة النثر العراقية “ولدت مصحوبة ببسالتها وتأثيراتها على جسد العالم ورؤاه”، و” جاءت قبل ابتكار وسائل التدوين” ويرجع ذلك إلى  إن “الأدب الرافديني كان يتداول شفاها قبل اختراع الكتابة” ومع احترامنا وتقديرنا العميقين للإخلاص والحماس الذي عليه الأستاذ (محمد) فأن ذلك لا يتحقق بهما فقط إذ لابد أن ترافقه دراسات علمية موثقة ، تعمل عليها مراكز بحثية متخصصة و ترتبط بأحدث المكتشفات العلمية التي هي من شأن علماء الاركيولوجيا و كشوفاتهم وقرائنهم التي لا تدخل قطعاً ضمن التمنيات والنوايا الحسنة المخلصة ، حيث أن كل الشعوب لديها في تراثها ما تفخر به ، وما تعده إضافة إلى سفر الثقافة الإنسانية، ولا احد من حقه منازعتها على ذلك أو التشكيك بأطروحاتها لأن معطيات الحضارة الإنسانية ليست حكراً على شعب ما دون آخر. يؤكد الراحل الكبير والعالم الجليل (طه باقر) إن منشأ الشعر في أدب وحضارة وادي الرافدين من الغناء والقصائد الشعبية الإنشادية ويضيف “الشعر في أدب وادي الرافدين القديم ، سومرياً كان أم بابلياً ، مثل أنماط الشعر الأخرى عند الأمم،كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف فهو يتألف من أبيات ،  قوام كل بيت من مصراعين(الصدر والعجز) وكان موزونا ولكنه غير مقفى ، أي انه على غرار ما يسمى بالشعر (المرسل) وخير ما يمثله في الأدب الانكليزي مسرحيات شكسبير” – طه باقر ملحمة كلكامش- كما انه يشير إلى بحث مهم منشور في باريس عام 1958  في كتاب المؤتمر السابع للمستشرقين من جماعة ” “ثورو دانجان” تم التطرق فيه بوضوح واستفاضة إلى أوزان الشعر البابلي من هنا فأن الشعر البابلي والسومري لا ينتمي لقصيدة النثر الحالية أو السابقة، إلا عبر ترجمته إلى اللغات الأخرى منثوراً وليس موزوناً بسبب صعوبات إيجاد الأوزان الشعرية المناسبة لذلك، وهو ما يحصل حالياً في ترجمة الشعر من أية لغة إلى أخرى ومنها اللغة العربية .  وبعض الكتاب يعيد قصيدة النثر إلى حضن التراث النثري العربي،وهو ما يمكن أن يعد وكأنها” لقيط” لابد لها من أن تحتمي بـ”أب” ما للاعتراف بشرعيتها، من اجل  أن يكون لها تراث يعتد به ولا تغدو هجيناً وهذه النظرة هي انتقاص من حتمية التطور الفني والأدبي والثقافي لأي امة من الأمم ومنها العربية، عندما يتم إعادة التطور الحاصل حضاريا إلى الماضي حصرياً . والمراقب المتأمّل للمشهد الشعري العراقي،  يجده اليوم ضاجاً بأصوات كاتبي قصيدة النثر الذين أضحوا يشغلون مساحة واسعة ،وسهلة جداً، من فضاءات الصفحات الأدبية ، في المجلات والصحف وكذلك في أغلب المهرجانات الأدبية-الثقافية المتعددة والمجلات المتخصصة شعرياً بنتاجاتهم.. فضلاً عن الإصدارات الخاصة التي يعمد إليها بعض الشعراء في طبع مجاميعهم وإشهارها على نفقاتهم الخاصة بطريقة الاستنساخ ، متحملين مكابدات أُخَر غير مكابدات الحياة المعيشية الراهنة وبهذا تكون قصيدة النثر ، ” سيدة المشهد” ، تأكيداً في إن “الشعر يحتفظ بموقع مركزي في الثقافة الإنسانية  وقد انتعش في أقدم الحضارات البشرية، وكان عنصرا بارزا في كل الثقافات  حتى وقتنا الحاضر “- مقدمة في الشعر –  جاكوب  كرج – ترجمة رياض عبد الواحد- الموسوعة الثقافية / بغداد .  يلاحظ أن بعض تلك النتاجات الشعرية لقصيدة النثر قد نحت منحىً شكلانياً محضاً ، وان قسماً منها قد أجهد نفسه على أن لا يقول شيئاً ما من خلال تجاهل (فن التوصيل) لإيصال المعنى، أو عدم القدرة على إدراكه. يحسب هنا الإخلاص المؤكد لبعض أو غالبية شعراء قصيدة النثر في الابتعاد عن صيغ المدائح والتكسب الرخيص لكل ما تفرضه وتعمل عليه أو تتبناه السلطات الرسمية  السابقة ، التي عملت على تعميم  (العسكرتاريا) وقيمها في كل منافذ الحياة العراقية، ومنها الشعر بالذات ، وأما ما هو جديد بعد هزيمة التوجهات الثقافية السلطوية السابقة واندحارها المهين فهو السعي لخلق اسيجة فاصلة بين الحياة والفن بكل تجسداته وتجلياته ، ومحاصرته وتوسيع الـ”محرمات” من خلال احتكار الرؤى وتعميم الظلمات والمناحات، وجعلها سمة للحياة العراقية برداء (المقدس) والنيابة عنه، للتحكم  الدنيوي النفعي، بشكل الحياة الراهنة وصيرورتها المستقبلية ، بعد عقود من الكبت والمهانة والدكتاتوريات التي صنعتها الآديلوجيات، أياً كانت، وتلفيقاتها اليومية والتاريخية.  يمكن- لحد ما ،وفي ما أرى وبتواضع- وضع سمات عامة  مشتركة لما ينشر لغالبية قصائد النثر،حالياً، منها فقدان وحدة الثيمة في القصيدة الواحدة،  ترافقها أقصى حالات التجريد اللغوي ، والتشظي الموضوعي، الذي يدفع إلى التباسات كثيرة، من بينها انعدام الجهاز المفهومي للشاعر ، وكذلك اعتماد المفارقات، في الصور كمهيمنات قارة في اغلب قصائد النثر، مع افتعال الغموض، وانغلاق النصوص على نفسها وسكوتها عما يجري حولها، دون حاجة فنية أو فكرية لذلك، فتتمّ التضحية بالمعنى تحت سطوة النزوع إلى الإغراب، وبما إن القارئ على وفق المعطيات الحديثة يستخدم وعيه الثقافي وتجربته الزمكانية للامساك بالنص وتحكمه بدلالات إنتاجه للمعنى بصفته “مرسلاً إليه”فإن لحظة الإمساك تلك تـأتي عبر الـ”كلمات” التي تؤسس “المعنى” كمعطى من “مرسل” مجهول ،أو معلوم، في ضوء طبيعة القراءة التي تقود إلى أن “الحقيقة الثابتة للنص، تتجسد بالكلمات” التي تنتج المعنى، ويُرحل ذلك تجاه ، القارئ ضمنياً، الذي سيجد نفسه في الغالب تائهاً في ميدان مجهول غير واضح الحدود، ميدان يتحسر المرء أمامه على طرق الشعر الجميلة المحددة المعالم، والأزمة هنا في أساسها ليس مردها قصيدة النثر ذاتها طبعاً، بل الأزمة تكمن في مَنْ يتعاطاها ويتعامل معها بسهولة ولا مبالاة، ومن المعروف أن قصيدة النثر هي خلاصة لمكونات ثقافية عالية المستوى متعددة التوجهات، ترافقها حالات ونتاجات كتابية متعددة المنحى ذات أفق منفتح تجاه تجارب راسخة في هذا الاتجاه، وليس بداية لمن يهوى الكتابة فقط لكي تُلصق به صفة(شاعر) كوجاهة اجتماعية ليس إلا، هذا إذا كان طريق الشعر يقود في وضعنا الراهن العراقي ،الثقافي خاصة، والعربي عموماً نحو الوجاهة.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات