23 ديسمبر، 2024 5:31 ص

قصيدة الشعر.. ردة فعل أم ردة شعر؟

قصيدة الشعر.. ردة فعل أم ردة شعر؟

منذ ان ضاقت الأعراف والتقاليد الشعرية بالشعراء، فأخذوا يجربون أشكالاً جديدة، وينظرون لتجارب مجهولة النتائج، إلى أن ضاع الخيط والعصفور مرة واحدة، خسر الشعراء رصيدهم الأهم على دكّة المحاولة والمغامرة. أعني به جمهورهم من القرّاء على مختلف مستوياتهم وانواعهم.. فكانوا في كل محاولة خاسرة، يطلعون لنا بعذرٍ طبعاً ليس أقبح من فعل.. فمرّة يقولون: أن الشعر فن النخبة، وانهم لا يريدون أن يسفّوا بالشعر لمستوى القارئ، بل ينبغي للقارئ أن يرتقى لمستوى الشعر.. ومرّة يتخذون من عبارات قيلت في سياقاتها التاريخية حجةً حجرية يلقمون بها المتعطشين لشعر يروي ويُروَى، فيكررون عبارة الفرزدق (( علينا أن نقول، وعليكم أن تؤولوا )) ويرددون بيت أبي تمام:
        عليّ سبك القوافي من معادنها      وما عليّ إذا لم تفهــــم البشـــــرُ
بل كثيراً ما أبدلوا كلمة ( البقرُ ) بآخر البيت نكاية بالقرّاء الجاهلين، وتعزيزاً لكبرياء شعرية من الورق.
        ومرّة يدّعون أن الحداثة لها متطلباتها، ومن متطلباتها أن تُفقَأ عينا القارئ بعد أن تُصَمَّ أذناه.. ومرة.. ومرّة.. وفي كل مرّة يعللون ويبرّرون لأنفسهم لماذا أصبحوا منبوذين. وفي كلّ ما جاءوا به من تعليلات يتناسون أنهم أفقدوا الشعر ما يجعله شعراً، وحرموه ما يمنحه هوية النوع، وسلبوا منه صوته الرنّان، وهمسه الناعم، وسرقوا منه علامات تعجبه واندهاشه وأدوات استفهامه وإجاباته.. وخلعوا عنه مصاريعه، ونزعوا مطاليعه، وألبسوه أكفان الصمت والسكون والمضمر والمسكوت عنه، وأوقعوه في الوحشة والجدب، وبالغوا في ردم قوافيه، وغلَوا في دفن أوزانه.. أردَوه قتيلاًن على كثرة مجاميعه الصادرة، المدعومة من ناشريها بأبخس الأثمان، ومات بمنتدياتهم المفتوحة، وهي تستجدي جمهوراً لن يحضرها على ما تقدمه المهرجانات والمنتديات الأدبية من خدمات ضيافةممتعة وغنية بالبروتين.
        وقد حاول مجموعة من الشعراء الشباب العراقيين ( والعراق وطن الشعر ) الإمساك من جديد بالمشهد، لاستعادة مواقع هاربة باتجاهات شتى.. وهم جماعة ( قصيدة الشعر ).. الذين أفلحوا شيئاً بنفخ الروح الشعرية في قصائدهم.. منطلقين باتجاه معاكس تماماً لمنجز الأجيال الشعرية المحدَّثة السابقة.
        على الأقل إنهم يعرفون ماذا يقولون وعمَ يتحدثون، وكيف يؤدون.. وكذا قارئوهم يعرفون ويشعرون ويهتزون ويتأملون ويستلذون بما يسمعون. موضوع واضح المعالم، وتماسك نصّي ، وإيقاع يجذب القارئ والسامع من تلابيبه ليقول له هنا الشعر. هنا ما ركضنا خلفه في التيه لنصف قرن تقريباً.. ردّة فعل الضياع كانت العثور على الخيط.. وعلى تخبط المفهوم تحديدَ المصطلح، وعلى تشظي النوع منْحَه خصائص الشعرية.. وإن لم يسلم من وسيلة دعائية تضاد المفهوم الشائع بنثرية القصيدة، لترتد لنا بشعرية القصيدة.
        هي ردّة الشعر عن النكوص.. وردة الشعر عن التيه في صحارى التجريب .. وربما هي ردة القارئ للشعر أيضاً.. فهل حقاً سيعود القرّاء الهاربين؟ وهل ستستعيد الأمسيات الشعرية أضواءها؟ 
[email protected]