القراءة النفسية للتأريخ تثير الشفقة على الخلفاء والسلاطين , لوضوح غفلتهم وسذاجتهم وعدم قدرتهم على إستيعاب مفردات عصرهم , وأكثرهم يميل إلى الهرب من الواقع والإنزواء في القصور مع الجواري وما لذ وطاب , ومعظمهم يعرف أن أيامه معدودة ومصيره محتوم وأليم , فهو يجلس على كرسي من الجمر , ومن حوله لهيب ودخان.
وحينما نتأمل مصير معظم الخلفاء يبدو مأساويا ومروعا , وعندما تتمعن في قصورهم تجدها ذات أماكن للتخفي والهروب , وبرغم الحراسة المشددة فأنهم تحت طائلة الإغتيالات والتفاعلات العدوانية المتوحشة , فلا معنى لمقامهم ما دامت هناك قِوى تتحكم بمصير البلاد والعباد بإسمهم.
الخلفاء بأنواعهم كانوا رموزا , ووجوها مستخدمة لتمرير إرادة القادة والوزراء , فهم لا يحكمون , وإنما هناك مَن يحكم بإسمهم , ولهذا فالتأريخ المكتوب لا يقدم حقائق , بل آراء وتصورات وتسويغات وتسويقات للقوة الفاعلة في الدولة.
فالخلفاء بلا هيبة أمام القِوى المتحكمة بالدولة وبوجودهم , لكن هيبتهم وقيمتهم تسوَّق للعامة لكي بتم السيطرة عليهم بواسطتهم , فالقلة من الخلفاء الذين فعلا حكموا وفرضوا إرادتهم , والكثيرون منهم كالأسرى في قصور الخلافة , ويتم إعداد المداحين من الشعراء لتدويخهم وتغفيلهم وإيهامهم بما ليس فيهم.
والأمثلة كثيرة على ما جرى لهم , والدليل الأسطع ما فعله البحتري مع خلفاء بني العباس , وكيف أطرى عليهم من الأكاذيب والتصورات المتحايلة للحصول على المال والعطايا والمكرمات.
ولو تابعنا مصير خلفاء الدولة العباسية , لظهر بأنهم بعد مقتل المتوكل كانوا أسرى لا حول ولا قوة لهم , إلا طاعة القادة والوزراء والمتنفذين في الدولة , وهم الذين ينصبونهم ويخلعونهم ويعذبونهم ويقتلونهم , وفقا لدسائس ومؤامرات وتحايلات , وتلاحيات بين الأخوة وأولاد العممومة , حتى إنفنى وجودهم وتناثر ملكهم , وصارت دولة بني العباس عدة دويلات وأقاليم.
ويبدو أن المسافة بين القصر والقبر تزداد قصرا , كلما تكالب الأغراب على الهيمنة على مقاليد القوة والقرار في الدولة.
وفي فوضى سامراء (861 – 870 وراح ضحيتها أربعة خلفاء) , عِبَر ودروس وشواهد على هذا السلوك , الذي أفقد الخليفة هيبته وقيمته وحوّله إلى بضاعة للترويج لهذا وذاك من المستحوذين على رأس الدولة.
ولهذا نقرأ عن بشاعات النهايات التي أصيب بها الخلفاء , من قتل مروع وتسميل عيون وإذلال وإهانة وتمريغ للرؤوس في وحل المذلة والهوان , حتى أتمها هولاكو بقتله الفظيع لأركان الدولة العباسية في بغداد , وخليفتهم المستعصم بالله.
والظاهر أن لعبة القصر والقبر لا تزال فاعلة في واقع الأمة , فالذي يجلس على كرسي السلطة لا يغادره إلا إلى القبر!!
“وما تدري نفس بأي أرضٍ تموت” لقمان:34
د-صادق السامرائي