23 ديسمبر، 2024 1:59 م

قصة تمثال غوغول في موسكو

قصة تمثال غوغول في موسكو

ولدت فكرة اقامة تمثال لغوغول في موسكو عندما تم تدشين تمثال بوشكين عام 1880, والذي اقامته واشرفت على تنفيذه جمعية محبي الادب الروسي, وقد كتب الاديب الروسي المعروف ايفان اكساكوف في ذكرياته قائلا , انه مع تورغينيف ارادا ان يعلنا عن ذلك , الا ان اديب من بطرسبورغ اسمه بوتيخين قال له ان هذه الفكرة قد خطرت له وانه كتب بشأن ذلك خطابا باكمله وطلب منه ومن تورغينيف ان ( نتنازل له كي يكون له الشرف بالقاء خطابه والاعلان عن الفكرة ) فوافقا على ذلك, وفعلا تم هذا الاعلان وكان اول المتبرعين شخص من رجالات الصناعة اسمه ديميديف وتبرع بمبلغ 5000 روبل وتعهد بتزويد مادة النحاس اللازم للنصب, الا ان عملية الاستمرار بجمع التبرعات وتنفيذ التمثال لم تستمر لمختلف الاسباب, ثم عاد الحديث مرة اخرى حول التمثال عندما وصل مبلغ التبرعات الى 70 الف روبل وذلك عام 1896 , ولكن فقط في عام 1906 تم تكليف النحات الروسي الشهير اندرييف بتنفيذ العمل ( بعد اعلان عدة مسابقات) , عندما قررت اللجنة المشرفة برئاسة ادارة مدينة موسكوافتتاح التمثال بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد غوغول عام 1909 وهذا ما حصل فعلا بتاريخ 26 نيسان/ ابريل , عندما احتفلت موسكو ولمدة ثلاثة ايام بهذه المناسبة . النحات اندرييف درس بعمق نتاجات غوغول وزار مكان ولادته وتحدٌث مع انصاره وحتى مع المضادين له  من الاوكرانيين القوميين المتعصبين , وهكذا وصل النحات الى فكرته النهائية بشأن التمثال وقرر ان يمثٌل غوغول في قمة أزمته الروحية الاخيرة والتي انتهت بموته, وقد وضعت اللجنة المشرفة على تنفيذ التمثال شرطا امام مجموعة من كبار المثقفين الروس عندما عرضته عليهم وهو ان تكون الموافقة بالاجماع , وانه في حالة اعتراض احدهم فلن يوافقوا على نصبه, وهذا ما تم فعلا.كان التمثال يصور غوغول في قمة ازمته الروحية وهو جالس على كرسي ومستغرق بشكل عميق في تأمٌل حزين وهو منحني الرأس والكتف  ومرتديا معطفا وكأنه يريد ان يغطي جسده المرتعش من زمهرير البرد القاسي . وقد أثار التمثال ردود افعال مختلفة عند افتتاحه , فمنهم من اعتبره ( افضل تمثال في موسكو من وجهة نظر الفن المطلق ) , وقال عنه الرسام الروسي الشهير ريبين انه ( جميل وبسيط وعميق وغير اعتيادي, وكم هي رشيقة التفاتة الرأس … ) واختتم تصريحه بجملة – ( يعيش النحات اندرييف) , واعتبره آخرون ( جيد وسئٌ في آن واحد), ورفضه البعض قائلا , انه ( يصوٌر لنا غوغول المريض , الذي حرق الجزء الثاني من روايته الارواح الميتة ليس الا, ولكنه لم يصور  غوغول الذي كتب  الجزء الاول من تلك الرواية ولا قصصه ومسرحياته العظيمة ), واذكر اني – مرة – زرت احد النحاتين الروس المعاصرين في موسكو وشاهدت نماذج مختلفة الاحجام لهذا التمثال في كل اركان ورشة العمل , فتعجٌبت من ذلك وسألته عن السر في هذه الكثرة الكاثرة من تلك النماذج , فاجابني هذه الفنان قائلا انني اتمرٌن على هذا العمل الفني العملاق الذي استطاع ان يعبر عن المزاج النفسي للكاتب اروع تعبير وانه يتمنى ان ينجز شيئا- ما قريبا من روحية هذه التمثال. وفي عام 1924 عندما بدأت حملة ( ادلجة كل شئ ), تم اعتبار التمثال على انه اشارة الى ان غوغول هو – ( ضحية من ضحايا النظام القيصري), ولكن جريدة برافدا كتبت في اواسط الثلاثينات, ان هذا التمثال يشوه صورة الكاتب الروسي العظيم ويصٌوره على انه متشائم ,وهكذا تم اتخاذ قرار بتغيير التمثال وتم اعلان مسابقة عام 1936 لتنفيذ ذلك , الا ان اجواء الحرب العالمية الثانية في تلك الفترة ومن ثمٌ الحرب نفسها قد حالت دون تنفيذ هذا القرار,  وهكذا بقي هذا التمثال في مكانه لمدة 42 سنة ,الى ان تم رفعه من مكانه بقرار من الحكومة السوفيتية عام 1952, ولم يكن هذا القرار بعيدا بالطبع عن رئيس الدولة السوفيتية آنذاك – ستالين, الذي يعرف المحيطون به انه لم يكن يميل الى تمثال ( غوغول المكتئب الحزين) الذي كان يمر من جانبه وهو في طريقه  من و الى الكرملين , والذي لا يمكن بالطبع في تلك الفترة ان يتم اتخاذ قرار بهذا الشأن دون التنسيق معه وموافقته على ذلك , وهكذاتم نقل التمثال الى مخزن المتحف المعماري في دير دونسكوي حيث كانوا يحتفظون بكثير من التماثيل الاخرى غير المرغوب بها في العهد السوفيتي , وبقي هناك الى عام 1959, وفي هذا العام – كما هو معروف – ابتدأ الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف حملته ضد ستالين والستالينية بشكل علني, وقد شملت هذه الحملة – وياللغرابة ! – تمثال غوغول ايضا . اذ تم ( اعادته الى الحياة  )جزئيا , واعادته ( من المنفى), حيث وضعوه امام البيت ( وهو الان متحف غوغول) الذي عاش فيه الكاتب السنوات الاربع الاخيرة من عمره والذي حرق فيه الجزء الثاني من روايته ( الارواح الميتة) والذي توفي فيه ايضا , ولا زال هناك لحد الآن, وقد علٌق احد النقاد قائلا , ان هذا التمثال عاد فعلا الى مكانه الملائم والصحيح , اذ ان غوغول كان هكذا عندما كان يقطن في ذلك البيت.
اما المكان الذي كان فيه ذلك التمثال فقد وضعوا هناك تمثالا آخر لغوغول عام 1952 لمناسبة الذكرى المئوية لوفاته, وقد شارك الكثير من النحاتين السوفيت في المسابقة التي تم الاعلان عنها في حينه وفاز النحات تومسكي بها , وهو الذي كان قد نحت التمثال النصفي لغوغول قبل ذلك وحاز على جائزة ستالين على عمله ذاك. ان التمثال الذي نفذه تومسكي جاء يحمل مواصفات التوجيهات الحكومية بهذا الشأن , ولهذا فان التمثال الجديد جعل غوغول واقفا ومتفائلا ومبتسما وقويا, وكتبوا على قاعدته انه من الحكومة السوفيتية, وقد مدحوا التمثال رسميا, الا ان علاقة المثقفين كانت سلبية تجاه هذا ( التمثال المرح) لغوغول كما اسماه البعض , بل ان الكاتب السوفيتي كاتايف قد انتقده قائلا ان تبديل التماثيل ليست ( لعبة شطرنج), وان هذا التمثال لا يتميز بروحية غوغول ولا بشاعريته, وعندما احتفلت روسيا بالذكرى المئوية الثانية لميلاد غوغول عام 2009 , قدمت مجموعة من الفنانين والمثقفين الروس طلبا رسميا الى رئاسة روسيا الاتحادية مطالبة باعادة التمثال السابق لغوغول الى مكانه بدلا من التمثال الحالي, واثار هذا الطلب موجة من المناقشات الحادة في وسائل الاعلام المختلفة آنذاك , وايٌده الكثير من الاسماء الكبيرة بين الفنانين مثل النحات المعروف , الجورجي الاصل, تسيراتلي, صاحب التماثيل والنصب في موسكو بما فيها نصب القيصر بطرس الاعظم في وسط نهر موسكو, وهو كذلك الذي نفٌذ تمثال غوغول في روما قبل سنوات, الا ان هناك مجموعة اخرى من الفنانين والمثقفين الروس لم تؤيد ذلك, مشيرة الى ان تمثال غوغول الذي يقف منذ اكثر من نصف قرن هناك قد تعوٌد عليه سكان تلك المدينة اولا, وانه ثانيا اصبح جزءا من كيان موسكو,وان رفعه لن يكون قرارا صائبا , بل سيكون استمرارا للخطأ الاول , اذ ان التماثيل تجسد روح عصرها, ويجب الحفاظ عليها من اجل الحفاظ على روح كل عصر في مسيرة تاريخ الامة , وقد أيٌد هذا الرأي وزير الثقافة الروسية في حينه.
وهكذا اصبح لغوغول تمثالين في موسكو , واحد يجسد شخصيته الغرائبية المتأملة الحزينة وهو جالس وغارق باليأس والاحباط ومتلفع بمعطفه, وآخر وهو واقف ومتفائل ومبتسم ويرتدي احدث الملابس …