22 نوفمبر، 2024 7:52 م
Search
Close this search box.

قصة النخيل بكليّة اللغات في جامعة بغداد

قصة النخيل بكليّة اللغات في جامعة بغداد

قال لي أحد طلبتي القدامى , الذي التقيته قبل فترة وبمحض الصدفة في موسكو , ان كليّة اللغات في جامعة بغداد, و بفضل زراعتك للنخيل في حدائقها ( عندما كنت أحد مسؤوليها الاداريين ) اصبحت تسمى الان في بعض الاوساط الجامعية هناك – ( واحة باب المعظم ) , وذلك, لان الشخص الذي يقترب من كليّة اللغات في مجمع الكليات , يلاحظ من بعيد تلك الواحة المكتظة بالنخيل , والتي تقف شامخة امام بنايات كليّة اللغات . وقال لي هذا الطالب القديم , اننا – نحن الطلبة آنذاك – كنّا نتساءل فيما بيننا , لماذا قرر معاون العميد ان يزرع ذلك العدد الكبير من النخيل في حدائق كلية اللغات فجأة وفي نهاية التسعينيات بالذات . ثم طرح عليّ هذا السؤال ضاحكا وهو يقول , اننا لم نتجاسر ان نسألك حول ذلك عندما كنّا طلبة لديك , ولكنني اتمنى ان اسمع منك الجواب الآن , اذ ان الاسرار لا تبقى اسرارا بعد مرور السنوات , واليوم مضى ربع قرن على هذا الحدث ( الاخضر الجميل !) . ضحكت أنا طبعا , وقلت له , ان اسلوب طرحك للسؤال يجبرني فعلا ان اجيب عنه بلا شك , وهكذا بدأت بالحديث عن قصة تلك الحملة التي اسميناها آنذاك ( نزرع 100 نخلة في حدائق كليّة اللغات ) , وها هي ذا بتفاصيلها كما حدثت , ارويها للقارئ العراقي , لاني أرى انها تعدّ الان تاريخا طريفا يستحق ان نعرفه و نتأمله ونستنتج منه دروسا .
استدعاني مرّة عميد الكليّة أ.د. مخلف الدليمي فورا لأمر هام جدا ( وكنت أنا حينئذ معاون العميد ) , وعندما ذهبت اليه وجدته قلقا , وقال لي , ان رئيس جامعة بغداد أ.د. عبد الاله الخشاب اتصل به هاتفيا الان , وأخبره وهو غاضب وزعلان جدا , انه عرف من مصادره الموثوقة , ان الاستاذ فلان الفلاني في كليّة اللغات قد استلم رشوة جماعية من طلبة الماجستير , وانه طلب من عمادة الكليّة متابعة ذلك ومعالجة الموضوع بكل حزم ودقّة واعلامه فورا بالنتائج . قلت له , ان احالة ذلك الامر الى اللجان التحقيقية سينعكس سلبيا على سمعة الكلية ( خصوصا وان هذا الاستاذ معروف في الاوساط الاعلامية) , لهذا اقترحت عليه ان نعالج الموضوع بحذر شديد وفي اضيق مجال , وطلبت منه ان اذهب انا الى بيت هذا الاستاذ اليوم مساء واتكلم معه بشكل مباشر ورسمي حول ذلك , اذ ربما نصل معه الى حل محدد لهذه القضية الاخلاقية المعيبة . وافق العميد على هذا المقترح , وهكذا اتصلت هاتفيا بالاستاذ المذكور واخبرته , اني سازوره مساء في بيته لأمر هام . ذهبت في الموعد المحدد , ووجدت ذلك الاستاذ ينتظرني بقلق امام باب بيته , وسألني رأسا عن الموضوع ونحن لانزال في الشارع , فقلت له بشكل مباشر ودقيق وموجز ما ذكره رئيس الجامعة , وانني جئت لبحث الموضوع معه , لأن عمادة الكليّة تريد ان تجد حلا لهذه المسألة دون تلطيخ سمعة الكليّة بمثل هذه الامور غير الاخلاقية في حالة نشرها واعلانها . اخبرني هذا الاستاذ رأسا وبدون لف او دوران, انه أخذ من كل طلبة الماجستير فعلا مبلغا متساويا من المال , لانهم ارادوا ان يساعدوه بعد ان أخبرهم حول حادث جرى له في بيته , وانه حذّرهم من عدم الكلام عن ذلك بتاتا , وقال لي وهو يكاد يبكي انه مستعدّ الان وفورا ان يسلمني المبلغ باكمله واعلام عميد الكليّة و رئيس الجامعة بذلك . استلمت منه المبلغ , وهو ليس بالقليل , خصوصا في زمن الحصار آنذاك , وعدت في اليوم التالي الى العميد ووضعت المبلغ على منضدته وحكيت له ما دار في اللقاء . اتصل العميد رأسا برئيس الجامعة , واخبره بذلك , وقال له انه مستعد الان ان يجلب المبلغ له لبحث الموضوع . رفض رئيس الجامعة هذا المقترح رفضا حادا وشديدا ومطلقا , وقال , المهم ان الاستاذ هذا فهم ان الجامعة تتابع الامور و لا تتهاون مع هذه الافعال المشينة, ويجب على العمادة الان ان تجد حلا للموضوع , وان هذا المبلغ لا يمكن ان يدخل في حسابات الكلية او الجامعة باي حال من الاحوال . وهكذا قررنا ان نعيد المبلغ الى الطلبة كي يعلموا بموقف العمادة والجامعة اولا, وثانيا , كي نتخلص من هذا المأزق , واتفقنا ان نستدعي كل طالب على حدة ونرجع المبلغ له . تقبّل بعض هؤلاء الطلبة المبلغ بكل سرور وقالوا انهم كانوا مضطرين لذلك , و رفض البعض الآخر الاقرار بانهم أعطوا المبلغ هذا خوفا من تبعات هذا الاقرار . بقي لدينا مبلغا لا نعرف (العميد وانا ) ماذا يمكن العمل به , اذ لا يمكن الحديث حوله مع رئيس الجامعة بتاتا بعد موقفه الغاضب والحازم والصارم عندها , ولا يمكن ادخاله ضمن ميزانية الكلية وحساباتها باي شكل من الاشكال, ولا يمكن اجبار هؤلاء الطلبة على الاقرار بعملهم واستلام المبلغ مثل بقية زملائهم . وبعد التي واللتيا , اقترحت استخدام المبلغ المتبقي لشراء فسائل نخيل كي نزرعها في حدائق الكليّة ( والاقتراح طبعا يعكس عشقي الدائم للنخيل !) , وقد وافق العميد على هذه الفكرة , وهكذا ابتدأت بشراء الفسائل وحددنا اماكن زرعها بمساعدة المهندس الزراعي ومساهمة الفلاحين وتأييد بعض الزملاء المتحمسين للفكرة من حولنا , وأخص بالذكر منهم بالذات المرحوم أ.د. علي يحيى منصور ( المعاون العلمي آنذاك ) , وانجزنا العمل كما يجب . وقد زار كليتنا مرة رئيس الجامعة الخشاب , ورافقته في زيارته , واثناء مسيرتنا في الممر الخارجي للكليّة تحدثت معه حول النخيل التي كانت امامنا في الحدائق وقد كان منظرها جميلا, وقلت له انها نتيجة حملة ( لنزرع 100 نخلة في حدائق كلية اللغات ) , والتي قامت العمادة بها بعد مكالمته الهاتفية حول تلك ( القضية !!!) التي يعرفها ومن المؤكد انه يتذكرها, فضحك الخشاب وقال – احسنتم .
هذه هي قصة النخيل التي تم زرعها قبل ربع قرن في حدائق كليّة اللغات , الحدائق التي يسميها البعض ( واحة باب المعظّم ) , كما قال لي طالبي القديم عند اللقاء معه في موسكو…

أحدث المقالات