حين يشيع الجهل والخرافة والسحر والشعوذة ويشك بكروية الأرض ، بمجتمع مرتد الى القرون الوسطى ،فكرا وسلوكا ،صار لزاما على المثقف الانخراط بمشروع تنويري لتبسيط وشرح النظريات العلمية والفلسفية…. هنا نواصل مشروعنا الذي بدأناه بالتفكير المستقيم والتفكير الأعوج ونظرية التطور.
لكل إنسان نظرة ورؤية يتجه بها في هذه الحياة، فبعضنا متفائل بها مقبلا عليها يسير فرحا نشطا مطمئنا وبعضنا متشائم لا يثق بهذه الحياة يريد قضاء حياته كيفما اتفق والسلام ،والبعض يؤمن انه يمكن إصلاح أحوال الدنيا فتراه يعمل لمحاربة الفقر والمرض والقبح والأخر يؤمن ان جهودنا عبث والأفضل ان يريح الإنسان نفسه ويستسلم للقدر….كل من هولاء له نظرة واتجاه فكري ينظر به ومن خلاله للحياة وبالتالي له فلسفة ،كل فرد يحيا هذه الحياة ويتفاعل معها ويراقب ظواهرها لا بد وان تكون له نظرة ورؤية وموقف وان تكون له فلسفته الخاصة.
انشغلت الفلسفة من قديم الزمان بالإجابة عن ثلاث أسئلة جوهرية ، ما هو الوجود؟ما هو الخير والجمال ؟كيف نصل الى الحقيقة وهل نستطيع الوصول اليها؟
والبراغماتية معنية بشكل أساسي بالشطر الأخير،معنية بصواب الأحكام التي نجريها على الأشياء حولنا،هل أحكامنا صحيحة ،وكيف لنا ان نتحقق من صحتها ،ففي كل دقيقة وكل لحظة او حركة نحكم على الأشياء والموجودات ، فهذه وردة حمراء وهذا رجل شجاع وهذا رأي موثوق به ….فهل هذه الأحكام صائبة حقا؟ كيف نتحقق من صوابها؟ وما الدليل القاطع على صحتها ؟ كيف لنا ان نحصل على الحقيقة؟ وهذا كله يستوجب البحث بكيفية وصول المعرفة إلينا،هل نثق بالمعرفة التي تأتينا من أدوات الحواس العين والأنف والأذن واللسان واليد أم المعرفة التي نصل اليها بالعقل ،أو المعرفة التي تصلنا عن طريق الإلهام………………؟
اختلف الفلاسفة بهذا منذ قديم الزمان وحتى عصرنا الحاضر وتعددت الآراء والمدارس والكل يدعي ان رأيه هو الصحيح.
سبل المعرفة
في نهاية القرون الوسطى وعند بداية العصر الحديث ،كان القول الفصل في المعارف والمعلومات للتقاليد الدينية والسلطات ،ما قالته الكنيسة هو الحق ،ما تقبله الكنيسة والسلطات هو الحق دون بحث أو تنقيب وما ترفضه هو الباطل ، تقول الكنيسة ان الأرض مركز الكون وان الشمس والكواكب خلقت لخدمة أرضنا تدور حولها،ولأن الكنيسة قالت هذا فهو القول الحق وكل رأي مخالف هو خطأ من أساسه ولا يجوز البرهنة عليه لان البرهنة على رأي مخالف يعتبر تعنت من الشيطان يستحق غضب الأرض والسماء.
بمعنى ان الحقيقة تقال وتقدم إلينا جاهزة فلا يحسن بنا أن نستخدم عقولنا لمعرفتها فالعقول لا تستخدم لهذه الشؤون العليا ،شؤون المعرفة والحقائق الأساسية ،ويسمح باستخدام العقل بالشؤون الصغرى ،شؤون الحياة العادية والعلاقات بين الناس وبعض الأمور العملية أما فوق ذلك فلا. وهناك شواهد وأمثلة على ما كانت تزعمه السلطات عن حقائق وهي ليست كذلك حين استطاع أحدهم ان يقيم الدليل على استحالة وجود قارة استراليا معتمدا على الكتب المقدسة.
كانت أراء أرسطو مسيطرة على التفكير العلمي الى أواخر القرون الوسطى ،وكل القضايا العلمية التي وضعها تقبل على علاتها وأن كانت مناقضة للمشاهدة والخبرة.
ورد في أحد كتبه ، أنه أذا ألقي بجسمين من مكان مرتفع فأن الأثقل يبلغ الأرض قبل الأخر ،قال أرسطو هذا القول ومات ،وظل العالم يقبله كقضية مسلم بها، دون أن يجرؤ أحدا على إجراء هذه التجربة عمليا ،وكيف يستطيع إنسان أن يشك في كلام أرسطو.
إلا ان شابا معلما تسلق برج جامعة بيزا وهو يحمل جسمين ،أحدهم يزن 10 كيلو والآخر 1 كيلو وألقى بهذين الجسمين أمام حشد الأساتذة وإذ بالجسمين يصلان الأرض بوقت واحد.
وفي غمار البحث عن أفضل الطرق للوصول الى الحقيقة كانت هناك المدرسة الاختبارية التي تزعم ان المعارف تأتينا عن طريق الحواس ،ولا يوجد لدينا طريق أخر للمعرفة حتى لو خدعتنا الحواس كما في ظاهرة السراب،والمدرسة العقلية التي ترى ان الحواس تقدم لنا المعلومات مجزئة فهذا كتاب وتلك وردة…ولكن العقل هو الذي يوجد الروابط بين هذه الأشياء،وقد شط بعض أصحاب النظرية العقلية حتى تصورا انه ممكن الحصول على المعارف عن طريق العقل المجرد فبالإمكان إثبات ان مجموع زوايا المثلث 180 عن طريق المعادلات الرياضية دون الذهاب الى قياسها بشكل عملي.
ثم المدرسة الصوفية التي ترى أن المعارف وان كانت تأتي إلينا عن طريق الحس أولا ثم عن طريق العقل ثانيا إلا ان لها طريق أخر هو طريق الإلهام ،عن طريق الاتصال الداخلي بين الإنسان والحقيقة الكونية أو الله ،نوع من التخاطب الداخلي بين الفرد والكائنات الروحية..بعض المعارف التي نجدها بقرارة أنفسنا لم تصل إلينا عن طريق الحس او الاستنتاج العقلي وإنما صبت بأنفسنا صبا.
سبنسر- المفاهيم التي ليس لها صور حسية يمكن ان تكون مفاهيم حقيقية
كان سبنسر يرى ان الكثير من المعتقدات التي نؤمن بها ليس لها وجود حسي ملموس ،ان مفاهيم مثل الحرية والعدالة والظلم…..لا يمكن للذهن ان يجد لها صورة او شكلا ذهنيا كصورة الحديقة او الشجرة …وإذا لم يكن لهذه المصطلحات صور وأشكال ذهنية يستطيع العقل ان يتعامل بها مع ذلك فأن هذه المصطلحات لها مدلول حقيقي لان لها تأثير بالحياة اليومية….حتى لو كنا لا نجد لهذه الأشياء صورا وأشكالا ذهنية فهي حقيقية لأننا نشاهد أثارها وعملها.
بيرس-الفكرة التي تقود الى العمل تكون فكرة صالحة وحقيقية
كتب تشارس بيرس في سنة 1878 مقالا بعنوان (كيف نوضح تفكيرنا) وضع به أساس البراغماتية ووجه التفكير الفلسفي وجهة غير التي كان يسير بها ،فتح طريقا قاد الى حقائق فلسفية مهمة كانت غائبة عن الفلاسفة في منعطفات الطرق القديمة التي كانوا يسيرون بها.
بهذا المقال عمم تشارلس المبدأ الذي توصل إليه الفيلسوف سبنسر،ليشمل جميع المصطلحات التي ليس لها صور حسية في أذهاننا ، معنى كل فكرة سيكون بما تحدثه من اثر بالمحسوسات أي بالاختبار والمشاهدة،فالكهرباء موجود حقيقي حتى وان كان الذهن لا يستطيع ان يتخيلها ذلك لأننا نشاهد أثارها وعملها في الحياة اليومية ، ليس للكهرباء صورة أو شكل ذهني ولكن لها عملا تؤديه ،فالكهرباء هي ما تستطيع أن تؤديه من الأعمال وما تنتجه من أثار سواء أكانت هذه الآثار مفيدة أم مضرة للإنسان .
كان الفلاسفة حين يبحثون بمفهوم معين مثل القوة يحاولون عن طريق المنطق أن يتوصلوا الى القوة بذاتها الى جوهرها ، وما هي القوة بغض النظر عن الأشياء القوية ،أبحاث لا تغني شيئا و لا تؤدي الى نتيجة.
نحن نعيش بدنيا مادية ونفسية وكل شيء يؤدي الى تغيرات بهذه الدنيا،وينتج بها أثار واضحة نلمسها ونحس بها ونشاهدها فلهذا الشيء وجود حقيقي….بمعنى لا ندلل على الموجودات والأفكار بالمنطق أو بالقضايا العقلية من مقدمات ونتائج وإنما بالآثار التي تتركها هذه الموجودات في الدنيا التي نعيش بها .
في محطة السكك الحديدية ، رنين الأجراس لا يعني عددا معينا من ترددات الهواء ، إنما يعني القطار وموعد السفر،فالمعنى الذي يؤدي الى العمل أو الى تغير في البيئة التي تحيط الإنسان ،هذا المعنى هو الحق وهو الصواب.
الفكرة عند البراغماتية مشروع عمل وليست حقيقة بذاتها ،خطة للتأثير بالبيئة ،خطوة في سبيل العمل، منبه السيارة مثلا ، لا معنى للبحث عن حقيقته وماهيته وهل هو من عمل الاذن او الجهاز العصبي أسئلة غير مجدية للبراغماتية ،المنبه معناه الانحراف يمينا او يسارا وإفساح الطريق للسيارة ، أنه مشروع عمل لأنه سيغير خطة سيري من اليمين الى اليسار ، ومن هذا تؤكد البراغماتية ان الفكرة هي مشروع للعمل،ومعنى فكرة الجاذبية أن أسير بشكل مخصوص وأتجنب قمم الجبال ،معنى هذه الفكرة هو مشروع لعملي وتصرفاتي مع الأشياء وخطة لتصرفي مع نفسي.
وليم جيمس-العمل الذي تؤدي إليه الفكرة إنما هو البرهان القاطع على صحتها
زعم بيرس ان الفكرة هي خطوة تمهيدية للعمل ولإحداث النتائج بهذا العالم المحسوس ،أتى بعده ويليام جيمس (فيلسوف البراغماتية) وزاد على هذا ان أي عقيدة تؤدي الى نتائج مرضية أو حسنة ،أنما هي عقيدة حقيقية ،فليست الفكرة مشروعا للعمل فقط ،أنما العمل والنتائج هي الدليل على صحة الفكرة ،وبهذا أخرجنا من معنى الفكرة أو مدلولها الى عالم الحقائق ،فأصبح العمل أو النتائج التي سترتب على الفكرة برهانا على صحة الفكرة بعد أن كان معنى لها.
فليس معنى الأجراس في محطة القطار مثلا قيام القطار والسفر الى البصرة فقط ،كما أراد بيرس،أنما تحرك القطار هو الدليل على حقيقة رنين الأجراس فهذه الفكرة حقيقة واقعة لأنه أنبنى عليها تغيرات متعددة بالبيئة وأعمال وأثار بدنيا المحسوسات ،وأصبح من اللغو أن نتساءل هل يوجد في العالم الخارجي أجراس؟ وهل لهذه الأجراس رنين مستقل عن أذاننا؟ وغيرها من الأسئلة الفلسفية، بالطبع في المحطة يوجد جرس له وجود ذاتي مستقل ، وله رنين هو الآخر مستقل عن أذاننا ،والدليل على الوجود الحقيقي المستقل لهذه الأشياء ،أنما هو التغيرات التي حدثت بالمحطة….وإذا كان بعض الفلاسفة يزعم أن وجود الأشياء المستقل خرافة ،وان حواسنا تخدعنا فهذا لا يخص البراغماتية التي ترى ان البرهان على وجود هذه الأشياء هو النتائج العملية التي انبنت عليها.
فالقوة حقيقة واقعة متى أزاحت الثقل من مكانه والكهرباء حقيقة متى ما أنارت المصباح وجمال الحديقة حقيقي لما أثاره من مشاعر وأحاسيس أجبرك على التقاط صورة….
درج الفلاسفة العقليون من أفلاطون الى أرسطو وديكارت وسبينوزا وغيرهم الى الزعم بان العقل هو أداة للمعرفة والمعارف التي تأتينا عن طريقه معارف صائبة حقة ، فالعقل هنا يشبه رجلا مبصرا يجلس بجانب رجل أعمى والمبصر هو العقل والأعمى هو الإنسان ،وعمل المبصر أن ينقل الحقائق الى الأعمى لمجرد العلم بهذه الحقائق ، يخبره ان هذا كتاب وقلم…….كل ما يقوله للأعمى صحيح ولكن لا عمل له غير المعرفة، ثم ظهرت البراغماتية فزعمت ان الدليل على صحة أي شيء أنما هو اثر هذا الشيء ووظيفته ، ولكنها تركت العقل كما هو أداة للمعرفة فإنما وجد لكي يعرف.
جون ديوي-الأصل في العقل أو الفكر ليس المعرفة ،إنما العقل أداة للحياة
الفيلسوف جون ديوي تخطى هذه الهوة بقفزة واحدة ، فرأى ان العقل في الواقع ليس أداة للمعرفة وإنما هو أداة لتطور الحياة وتنميتها فليس من وظيفة العقل ان يعرف فقط ، وإنما عمل العقل هو خدمة الحياة وتسهيل السبل لكي تنمو وتزدهر.
وظيفة المبصر ليس في نقل الحقائق فقط لأنه لو فعل ذلك لما كان له ضرورة بجانب الأعمى ،فالأعمى لا يهمه أن هذا كلب وذاك رجل إلا بحالة أراد ان يتعامل معهما ، وظيفة المبصر أن يصل بين الحوادث والأعمى بحيث يستطيع العمى ان يتصرف تصرفا يبعده عن الأخطار فيحفظ له حياته أولا ، ثم يصل بينه وبين العناصر الضرورية من مأكل ومشرب…..بعبارة أخرى لا تعود على الأعمى فائدة من ان القطار ذاهب الى البصرة او عائدا منها ، وكل ما يهمه أن لا يقع بطريق القطار، و مهمة المبصر- العقل ان يباعد بين الأعمى وبين القطار وأن يقارب بينه وبين العناصر الضرورية للحياة.
ومثل العقل في هذه الحالة مثل أي عضو آخر في جسم الإنسان كالعين والذراع ،فالعين لم تخلق لتنقل إلينا ألوان قوس قزح وإنما خلقت لتدلنا على مواقع الخطر لتجنبها ، فالعين أداة للحياة وكذلك العقل.
هذه كلمة إجمالية عن قصة الفلسفة الأمريكية ، الفلسفة البراغماتية لعلها تجدي نفعا بأن تجعلنا نعيد النظر بكثير من مفاهيمنا وثوابتنا وأحكامنا على الأشخاص والتاريخ ونترك الجدل العبثي هل كان فلان على حق او باطل ونلتفت الى تأثير وجدوى هذه المفاهيم لنودع ما هو غير مجدي ونذهب الى العمل المثمر لبناء بلداننا بدل الصراخ والعويل بمكبرات الصوت……….