يحتفي العالم في الوقت الحالي بما وصل إليه من تقدُّم يُعتقد أنه ثورة بكل المقاييس؛ فلقد أصاب جميع سبل الحياة قفزات متلاحقة غير مسبوقة في فترة وجيزة. والجاذب والمثير في الأمر، أن العالم دومًا كان يطرأ عليه طفرات من التقدُّم، على فترات متباعدة، من شأنها تغيير مجرى الحياة على ظهر الكوكب بأكمله؛ لأن الآثار المترتبة على أي طفرة قد تنشأ في الشرق أو الغرب تنتقل بوسيلة أو بأخرى لجميع أنحاء العالم، والتاريخ خير شاهد على ذاك. فعلى سبيل المثال، طفرة تقدُّم العالم الإسلامي بدءًا من العصر الأموي كان لها عظيم الأثر على العالم الغربي، الذي بنى نهضته بناءًا على ما تعلَّمه من الحضارات التي احتك بها. وحينما انقلبت اللأوضاع، قام العرب بنفس الطريقة في الوقت الحالي ببناء حضارة جديدة متطوِّرة ؛فالأيام دول، لكن الثابت هو وجود أسس رئيسة من خلالهايسعى الجميع لإحراز طفرة تقدُّم.
لكن ليس بالتقدُّم وحده يمكن إحراز الطفرات؛ فلقد كان للحروب العالمية عظيم الأثر على شعوب العالم بأكملها؛ فالحرب العالمية الأولى كان لها عظيم الأثر على العالم بأكمله، إذ ألقت على العالم هالة من الحزن والضبابية تمتد أذرعها إلى الوقت الحالي، حتى مع التقدم الذي تلى الحرب العالمية الثانية، إلَّا أن حالة الحزن هذه لا تزال تلازم الأجيال، مما حوَّلها لمرجعية يعودها البشر كلَّما تأزمت الظروف.
ومن الجدير بالذكر أن توابع الحرب العالمية الأولى أفرزت ما يسمى “بالجيل الضائع” الذي برز أمثلة منه في عالم الأدب، سواء على مستوى الأدباء أو النتاج الأدبي، وعبِّر هذا الجيل عن غضبه الشديد لعدم وجود مكان للاعتراف بتأثيره بين ما سبقه من أجيال عظيمة، وما سوف يتلوه في المستقبل من أجيال من المنتظر أن يُحتفى بها، لكن على عكس هذا تطوي صفحات التاريخ “الأجيال الضائعة”التي نزع منها الماضي والحاضر هويتها.
ومن الموهوبين في عالم الأدب الذي لم يخلِّد اسمهم التاريخ ولم يسطع نجمهم في سماء الأدب، الشاعر الأمريكي “ديلمور شوارتز” Delmore Schwartz (1913-1966) الذي كانت مسيرته في الحياة ونهايته مأساة لم يتجرَّع مرارتها إلا هو نفسه. فلقد امتلك والده ثروة طائلة، تطلَّع ” شوارتز” أن يرثها ويرث معها مكانة والده في المجتمعبسبب خوضه مرحلة طفولة تعيسة من كل جانب وشباب لم يختلف كثيرًا عنها بسبب أن والده طلَّق أمُّه بعد تسع سنوات من الزواج، تاركًا الزوجة تعاني من مرارة متفاقمة لا تنتهي، لكن الأب فجأة يتوفى وهو في سن التاسعة والأربعين فقط بعد أن خسر ثروته بأكملها.
وبالرغم من هذا، لم يفت ذلك من عزيمة “ديلمور شوارتز” الذي شعر بأنه لسوف يصير شاعرًا حينما كان في المرحلة الجامعية، ومنذ ذاك الحين كرَّس نفسه لبرنامج صارم يقرأ فيه الأدب ويتعلم الفلسفة ويستمع لدرر الموسيقى العالمية؛ لأنه كان يشعر بداخله أنه لسوف يصبح متميزًا. فأخذ ينهل من تجربته الشخصية ويصيغ أشعارًا تعبِّر عن ذاته، ولهذا تم وصفه بأنه “أخذ الأدب على محمل شخصي“؛ لأنه كان يستحضر ذكرياته، ثم يصيغها في قالب شعري. فعلى سبيل المثال، في أحد أشعاره استحضر “ديلمور شوارتز” ذكرى مؤلمة كان لها عظيم الأثر على نفسه، عندما تعقُّبت أمه والده وهو يتناول العشاء برفقة إمرأة أخرى، وحينهااصطحبت الأم ابنها “ديلمور” البالغ من العمر سبع سنوات حينها، ثم انفجرت غاضبة في الزوج الخائن أمام روَّاد المطعم. وعبَّر شوارتز عن هذا الموقف بقصيدة وردت ضمن ديوانه، الصَّادر بعنوان: “Prothalamion” أو “أنشودة الاحتفال بالزواج” عام 1938، وفيها قال:
“صعقت ثورتها المنطوقة
الطفل ذو السنوات السبع
بخزي امتد لثلاثتنا
وشفقة من قبل النَّادل المضطَّرب قليل الحيلة
وغضب انطلق من نظرات رواد المطعم المتلهفين المزدرين للموقف
وصاحبهم صاعقة اشمئزاز عظيم لكل إنسان على ظهر الأرض.
في تلك القصيدة، يروي “ديلمور شوارتز” تجربة أمه المريرة عند كشفها خيانة زوجها من خلال عيون صبي عمره سبع سنوات فقط، وكانت التجربة بمثابة صاعقة. فكلمات أمه الغاضبة الموجهة لأبيه لم تصعق الأب الخائن، بل كان تأثيرها الأكبر على الطفل الذي شعر بخزي عظيم بسبب هذا المشهد المهين الذي جعله يكره البشرية، وجعله يعبِّر عن ذلك بقوة سواء في أشعاره أو في تفاصيل حياته الخاصة مما أكسبه شهرة لقب فنان مثير للجدل بين أقرانه الأدباء. ولم يقتصر نتاجه الأدبي على الشعر فقط، بل امتد للرواية والقصة القصيرة والمسرحية والمقالات النقدية أيضًا، وبالإضافة إلى ذلك درَّس مادة الكتابة الإبداعية في ست جامعات مرموقة. بل ونال العديد من الجوائز الأدبية، وكان صديقًا لكبار الأدباء. لكن كل هذا لم يمنع أنه عاش وحيدًا فقيرًا، ومتنقلًا بين غرف الفنادق الحقيرة حيثما وافته المنية في ردهة أحدهم وهو لا يزال في أوائل العقد الخامس من حياته.
وبالرغم من موهبته العريضة التي دفعت صديقه الحميم “صول بيلو” Saul Bellow أن يكتب لرثاء وفاة صديقه مسرحية “موهبة هامبولدت” Hamboldt’s Gift التي نال الأخير عنها جائزة البوليتز الأدبية Pulitzer Prize، ووصف فيها “بيلو” تفاصيل صداقته الحميمة مع “شوارتز” وأبرز مقدار موهبة صديقه العريضة.
لكن، وبالرغم من كل هذا، لم يحظ “شوارتز” على مقدار الشهرة التي يستحقها؛ بسبب استحواذ الأجيال السابقة على الساحة الأدبية، وخاض نفس المعضلة العديد من الكتاب المتمييزين حينها الذين لم يحظوا أيضًا إلَّا بلقب“كاتب موهوب” يذكِّرهم بكاتب آخر عظيم، لكن موت“شوارتز” وموهبته لم تكن ذات أثر، أو حتى دفعت آخرين على السير على خطاهم.
وللأسف، وبنفس الطريقة، يحدث هذا مع الأجيال الحالية من الأدباء ونجوم العالم العالم الرقمي، الذين قد يحظون بملايين المتابعات والمشاهدات، لكن سرعان ما قد ينصرف الجمهور عن محتواهم، أو حتى يتوه وجودهم وأعمالهم في تلافيف النسيان لمجرَّد غيابهم لفترات وجيزة. ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد، فالكثير من أصحاب المحتوى يفضلون تقليد موضوعات القنوات الرائجة، دون أي إضافة تُذكر؛ فهم على علم بأنه بمجرَّد وقوعهم بعيدًا عن دائرة الضوء سوف يطويهم النسيان، حتى ولو كان ذلك بسبب عدم انتشار محتواهم بسبب قلَّة المشاهدات أو مشاركة الموضوع.
العالم الرقمي الحالي الذي يتصدَّره جماهيريًا روَّاد مواقع التواصل الاجتماعي، يعد شديد القسوة وراغبًا عن تخليد أسماء كل من يتعاملون معه. فأجيال صنَّاع المحتوى الحاليين، سواء أكانوا أدباء أو كتَّاب أو ممن ينشرون موضوعات مختلفة، من الأحرى أن يُطلق عليهم لقب “الجيل الضائع”؛ فهم يقعون بين فكي رحى الموهبة التي يعترف بها متابعيهم، إن وجدوا، والنسيان الذي سرعان ما يطوي تاريخهم إذا قل ظهورهم، حتى ولو شاهده فيما بعد البعض عن طريق الصدفة، علمًا بأن انتاجهم سرعان ما قد يوصف بالقديم البالي.