22 ديسمبر، 2024 5:46 م

ــــ 1 ـــ
عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، صدر مؤخرا للشاعر العراقي جليل حيدر نوفيلا تحتِ عنوان تنظيف الماضي. وتعريفا بهذا الجنس اﻷدبي وعلى ما أجمع عليه أصحاب الشأن والعلاقة، فهو ينتصف المسافة بين اﻷقصوصة والرواية، لذا ستنطبق عليه شروط الكتابة السردية بكل ما تحمله الكلمة من دلالة ومعنى، غير انه سيختلف عنهما في حجمه ليس الاّ. وزيادة في الإيضاح وعلى ما يرى البعض، فإنَّ عدد صفحاته (النوفيلا)سوف لن تزيد عن المائة أو نحو ذلك. في كل اﻷحوال فإنَّ أمرا كهذا ليس مهما، فما يعنينا هنا وبالدرجة اﻷولى، أن يكون النص مكتمل الشروط، مستجيبا لها ويصل القارئ على كف من الراحة والمتعة والفائدة.
ومن خلال قراءة النص، فقد بدا واضحا وبما لا يدع مجالا للشك وبضرس قاطع، بأن الكاتب يتمتع بذاكرة وقادة وقدرة فائقة على الخوض والغوص في الماضي وفي عالم السرد، لذا وإذا جاز لنا أن نبدي رأيا، فكان بإمكانه أن يمد يديه ويبسطها أكثر كي يوسع من نصّه، وأن يحث خطاه ليشتغل على موضوعة الربط بين حلقات مدونته وفصولها، وأيضا الدخول وبشكل أعمق على مستويات أخرى كاﻷحداث والوقائع التي جاء على ذكرها، وكذلك على بنائه لشخصيات نصه وتفعيله لها، لتمتد وتأخذ مديات أرحب، خاصة إذا ما علمنا بأنَّ الكاتب يتحدث عن فترة زمنية فائقة الخطورة وعصيبة من تأريخ العراق، الا وهي فترة الستينات وما حملته من تغيرات دراماتيكية وإضطرابات، كان لها الدور الكبير في رسم مستقبل البلاد وما لحق به من مصائب. غير انه وفي كل اﻷحوال، سيبقى لصاحب النص الكلمة العليا في إختيار نوع الجنس اﻷدبي الذي سيخرج من بين يديه، وبما ينسجم ويتلائم وغاياته التي كان قد خطط لها ورسمها، عند شروعه في الكتابة.
أمّا عن لغة القص فقد استوعبت بين جنباتها وفي اغلب فصولها الكثير من فنون الكلام وبديعه، عدا عن الإستعارات والتشبيهات وأخواتها اﻷخريات من أشكال البلاغة، لنخرج بنتيجة مفادها: أنَّ الكاتب قد أحْسَنَ وأجاد في إستخدامها. وهدف كهذا على ما أجزم لا يقل أهمية عما جال في خاطره وأراد إيصاله. وإذا كان لنا من قول وتعليق على هذه الجزئية من العمل، فينبغي ان لا يغيب عن بالنا بأن صاحب السرد أو النوفيلا هنا، هو شاعر من الطراز اﻷول، وبينه وبين اللغة ما أنصف الدهر. وإذا ما تحدثنا عن سلطة الخيال فعنده منسابة، سلسة، طوع يديه، مكنته من توظيف ملكاته هذه على صياغة نصه. وكحصيلة لهذا كله، سنجده موفقا في اﻷخذ بيد القارئ والتحليق به وبخفة الطير ورشاقته حيث يشاء.
وعن أثر لغته الشعرية في بناء شخصياته فلا بأس من التوقف عند بعضها، ولنأخذ هنا مثالا الا وهي شخصية لويزة. فقد صاغها الكاتب بطريقة واضحة، أكملها من كل أطرافها، لتصل المتلقي بإعتبارها إبنة الحي (الحبابة)، ذات اﻷصول والحسب والنسب، بل حتى راح مغاليا في بناء هذه الشخصية، وربما أراد من خلال ذلك التذكير بطبيعة العلاقة ومدى جمالها وطهرها وأناقتها، والتي كانت سائدة آنذاك بين بنات المحلة وشبابها. وعن ذلك أقول، أنا كاتب هذه السطور ومن غير تردد، بأنَّ هذه الـ (لويزة) التي صاغها لنا جليل حيدر قد أثارت حفيظتي، رغم البعدين الزماني والمكاني الذي يفصلنا عن بعض، وأعادت لي مواجع الصبا ولوعاته، لِمَِ لا وهي الخاتون والأكثر سحرا وجمالا من بين بنات المحلة، لذا دعني ياصاحبي أغتبطك على رسمك لهذه الفاتنة.
وﻷن شخصيتها تتمتع بجاذبية لا يدانيها أحد وأقضت على مضاجع الكاتب قبل غيره، فقد أفرد لها من الكلام ما لم يقله لغيرها، لذا بات لزاما علينا العودة الى ما كتبه عنها. ففي إحدى الفقرات على سبيل المثال. رأى فيها ما لم يره في النساء اﻷخريات((ﻷنها رصينة مثل راهبة، ومحتشمة مثل مصلية في كنيسة)). بهذه العبارة البليغة التعبير والدقة سيعيدنا جليل الى مفهوم الحب العذري، التقي النقي، البريء من كل شائبة الاّ ما حلَّله الله ودعاة العشق الالهي.
وﻷنه يعيش مغتربا ومنذ أمد بعيد، وبينه وبين لويزته دهر من المسافات واﻷزمة، لذا راح يبحث عن معادل موضوعي، يعوض من خلاله ما كان قد فقده هناك في بغداده، فكانت مايا بحضورها البهي، السويدية اﻷب واللبنانية اﻷم، فهي اﻷخرى، تتمتع بقلب طيب وبلا حدود.شفيفة، لطيفة، بدت ومن بين سطور السرد، كما التي إصطفاها الله لتكون شفيعة ومنقذة للكاتب أولا ومن ثم لجمهرة غفيرة من المغتربين الى بلدان الشمال، بلاد الثلج والمحبة، بعدما ضاقت بهم اﻷرض بما رحبت، وَضَيَّقَ عليهم الحكام حتى سُمِعَ أنينهم. وإذا كان هناك من إختلاف بين الشخصيتين اﻵنفتي الذكر فيتمثل في الأجواء المحيطة بهما، فللجغرافية بعض نصيب وللعادات نصيب آخر، فمالمو السويدية ليست كبغداد في أحياءها ودرابينها وتقاليدها وقاهيها، وليست هناك من عتبة أو دكة تجمع شباب الحي وفتيته.
ـــ 2 ــ
في هذا القسم من النوفيلا،سنستعرض شخصيات أخرى ومن حيث انتهى اليه الكاتب وعلى قاعدة الفلاش باك، والحديث هنا سيدور عن كريم دعبله، احد الشخصيات الرئيسية التي جرى تركيز الضوء عليهان إذ كان ضمن مجموعة أصدقاء، جرى التعويل عليها أيام الحرس القومي، وكان الحال كذلك حيث تصدى هو وصحبه ﻷولئك الذين عاثوا في اﻷرض فسادا. هنا وعلى ما جاء في النص ستقع المفارقة بل قل الفاجعة. فـكريم هذا وبعد مضي قرابة العقود الستة على تلك الواقعة، وبعد أن كان يدافع عن أبناء حيّه وعن تلك المبادئ التي حملها بين ضلعيه ويديه، فإذا به يقف((مؤشرا على قصر عباسي من قصور بغداد)) وهو في حالة سطو علني وأمام الملأ وبالهواء الطلق، موعزا لشلته المرافقة بطرد سكان البيت اﻷصليين والإستحواذ عليه. هنا سيأتيك السؤال: هل تمت عملية الطرد على أسس طائفية ودينية وعرقية؟ الرد سيكون في ذمة أهل الحكم.
عن حالة كهذه وما يشابهها وهي كثيرة وباتت مدن العراق وخاصة العاصمة تَعجٌ بها، سيعلن جليل حيدر إحتجاجه وبصوت عالٍ، لِيُسمعُ حتى مَنْ بإذنه صمم((أنا اﻷول واﻵخر أعلن عن بدء الضد وأصرخ ايضا تفاً)). ثم يمضي مكملا وبدافع الغيرة عن مدينته التي أحبها وفارقها على ضيم: دَعْ بغداد تكن بغداد لنا يوماً. وفي هذا البيت الشعري، ومن غير عناء وبتفسير صريح العبارة، أراد الكاتب أن يقول أن مدينته لم تعد له ولا ﻷخوته ولا لويزة وشقيقاتها.
والذي أثار حنق الكاتب أكثر هو أن يكون قائد مجموعة السطو على البيوت هو كريم دعبله: حتى أنت يا كريم يا إبن دعبله، أنسيت اﻷحبة هكذا؟ وإذا كنت نسيت أو تناسيت عن عمدٍ، فسأعيدك الى ذلك اليوم الذي جرى فيه إحتلال مركز شرطة الخلاني من قبل ثلة من الحرس القومي، ليتخذوه مقرا لهم، ويقوموا بإعتقال فلان وفلان وفلان والقائمة تطول، بتهمة الولاء للشعب. وعن ذلك اليوم اﻷسود وشباطه سأذكرك أيضا حين قمت بالدفاع عن أهلك، يوم كنت رجلا بشاربين وزندين، ويوم إهتزت فرائص كل مَن سولت له نفسه.
وإستمرارا لمدونة الكاتب، سيظهر بجلاء مدى إلتصاقه ببغداد، وإذا كان لنا من وصف لها فهي علاقة عشق أبدية، جرى تعميدها بمباركة كبار سدنتها وسادتها، وجال أزقتها وتخبّرَ درابينها مُذْ كان صغيرا. فمنطقة الفضل هنا، وعكَد الأكراد هناك، والشواكة على مرمى حجر. وإذا ما أراد أن يستحث التأريخ وَيُحضرهُ، فسيتذكر كيف تم عقد صلحا أبديا بين محلتي أبو سيفين والعوينة، فاق في نظافته كل المواثيق، عماده المحبة والنخوة، مما شجع أحياء أخرى على الإنضمام لهما وكان في مقدمتهم أهالي فضوة عرب. سار كرخها ورصافتها بقدمين مباركتين، وبنشوة خمر وغرة شعر بطويات ستة، وعلى هدى وإيقاعات المقام البغدادي وصوت حسن خيوكة ويوسف عمر .
أما والحال قد تغيَّرَ، فما كان له الاّ أن يناجي أحد متصوفة مدينته، انه بشر الحافي، الإمام التائب عن المعاصي:
ــ يا أزهد الناس وأكثرهم أناقة في الكلام، إياك أشكو حال بغداد، فها نبوءتك قد تحققت حين قلت: يأتي زمان ستكون الدولة للحمقى. ثم راح الكاتب يزيد عليها في إستشهاده ما قاله الجواهري الكبير بعد قرون، بعد أن شَمَّ اﻷخير رائحة الطغاة وهو على بعد عقود عديدة، لتأتي أبيات شعره كما الذي قرأ ما سيحصل:
فضيق الحبل وأشدد من خناقهم
فربما كان في إرخائه ضرر
تصور اﻷمر معكوسا وخذ مثلا
مما يجرونه لو انهم نصروا
وحدثت الواقعة ووقع المحذور، فخسر الشعب كل الشعب الاّ قلة باغية.
ـــ3 ـــ
سيواصل الكاتب سبر سيرته البعيدة ليتوقف ويسترجع واحدة من أهم وأزهى المحطات التي ظلَّت راسخة وبقوة في ذاكرته، والتي يمكن عدَّها موئلا وخزينا ثريا، لا أظنه سينضب بتلك الخفة، بل سيكون معينا له ويعود اليه كلما إقتضت ضرورات الكتابة. ولعل النص الذي بين أيدنا، لهو نموذج ودليل قاطع على ما ذهبنا إليه. فمصادر التأثير على منتج جليل حيدر بادية عليه. وإذا شئنا العودة الى فترة الستينات والعود رحمة لِمَنْ يُحسنها، وعلى الرغم من يفاعة عمره، فقد راح ساعيا في مناكب اﻷدب والثقافة، بهمة وحماس وكان له ما أراد. ومن هناك إبتدأ مشواره وشرع في بناء أعمدته والمشي بخطى ثابتة ومستقرة، ليجد نفسه مؤتلفا مع ذائقته الفنية بل راحا يسيران سوية.
إنه إبن الجمهورية اﻷولى وزعيمها اﻷمين، ومن جيل سيُطلق عليه بجيل الستينات. وخلال الفترة التي كان فيها طالبا للمرحلة المتوسطة، كان إبن الحجي، الشيوعي الصغير، قارئا ممتازا وشغوفا(( مقارنة بأقرانه وزملائه … حفظ الكثير من شعر المعلقات للزوزّني))، فضلا عن تأثير شقيقته الكبرى على ذائقته الفنية وعلى خياره السياسي، فقد كانت هي اﻷخرى مولعة بقراءة الكتب الملتزمة ومواضبة على مشاهدة اﻷفلام الجادة، من على شاشات السينما، يوم كانت بغداد زاهية وعاجة بدور العرض، وربما فاقت آنذاك في عديدها وبهاءها كل العواصم العربية بما فيها القاهرة، التي تُعد عاصمة للدراما العربية، إذا ما حسبنا اﻷمر على قاعدة النسبة والتناسب من حيث عدد السكان.
مبروك لجليل حيدر إصداره لنوفيلاه ((تنظيف الماضي)