ان قرار اعطاء البعثيين فرصة ثانية للعودة لممارسة دور في الحياة العامة هو واحد من القرارات الصحيحة القليلة التي اتخذها المالكي في الفترتين التي تولى فيهما منصب رئيس الحكومة العراقية. ولو كانت هذه الخطوة قد اتخذت منذ البداية لكان مئات الآلاف من ضحايا العمليات الأرهابية ما يزالون احياء بيننا اليوم.
ليس من الانصاف القول “اعفوا البعثيين من عقوبات الجرائم التي ارتكبوها”, بل ان عدد كبير من صغار البعثيين و ليس فقط كبارهم يستحق ان يعاقب و بشدة على ما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الانسانية بحق ابناء الشعب العراقي. ولكن الخطأ الذي وقع فيه من كانوا ضمن دائرة صنع القرار وهم يعيشون لحضات من نشوة الأنتصار على خصمهم هو انهم ذهبوا مع رغبتهم الغريزية في الانتقام من النظام الذي اعدم رفاقهم في النضال و عذب و طارد عائلاتهم فعمموا صفة الاجرام على كل من كان بعثياً. وامسى الملايين من المحسوبين على حزب البعث مطاردين قانونيا و معزولين اجتماعياً وفاشلين اسرياً كونهم غير قادرين على توفير لقمة العيش لعوائلهم. وهذه الظروف عندما تجتمع سوية فأن نتاجها الوحيد هو شخصية يائسة و حاقدة على محيطها تتعزز فيها الجرأة للاقدام على اي نشاط من شأنه ان يلحق ضرراً جسيما بالمجتمع. وقد وجدت المخابرات الاقليمية في هذه الشريحة التي فقدت دورها ونبذها مجتمعها خير من ينفذ اجندتها سيما و انهم جميعا مدربون عسكرياً و ملمون بأساليب العمل الاستخباري و على معرفة تفصيلية بجغرافيا مدن العراق و باديته.
اذا احصينا اعداد البعثيين و اضفنا لهم المتأثرين بهم و افراد عوائلهم فان المجموع سيكون اكثر من سكان بعض دول الخليج العربي. واذا استمرينا بتصنيف هذا العدد كشريحة غير مرغوب بها فعلينا ان نواجه خرقاً شعبياً كبيراً يتطلب التعامل معه حنكة و مسؤولية عالية و قراءة دقيقة لطبيعة المشكلة الأمنية في البلد بعيداً عن الرعونة الغير واقعية التي نتج عنها طيلة السنوات الماضية الكثير من العمليات الارهابية و الفشل المستمر في تحقيق الأمن.
هناك حزمة من الخطابات التي اعتدنا على سماعها من القيادات السياسية و الامنية بعد حصول اي عملية ارهابية و سقوط مئات الضحايا نتيجة لها, منها “تحالف البعث مع القاعدة” و “الصداميين و التكفيريين” … و غيرها. وهذه التوصيفات صحيحة .. لكنها غير كافية لايقاف نزيف الدم في العراق. و ان استمرار العدو الذي حددوه اعلاه بتنفيذ هجماته في الوقت و المكان الذي يريد هو دليل على ان البعثيين و الصداميين اصبحوا اكثر اندفاعاً نحو اهدافهم العقائدية و باتوا يحققون انتصارات مستمرة و لديهم القدرة على مواجهة امكانيات دولة مدعومة من كبرى دول العالم. فهل سأل القائمون على المسؤولية الامنية في العراق انفسهم ” ما الذي تغير في البعثيين الذين تركوا ساحة المعركة و هربوا الي بيوتهم في نيسان 2003؟ وما الذي دفعهم للعودة الى المعركة مرة اخرى ؟ الجواب هو ان البعثيين عام 2003 كانوا جماهيراً فيهم نسبة عالية من الغير مؤمنين بفكر البعث وكانوا قد انخرطوا في صفوفه لتحقيق مصالح شخصية بسيطة ولم تكن تربطهم بالبعث اي رابطة عقائدية ولم يكن لديهم اي ايمان بالموت في سبيل البعث.. لكن السياسة العمياء التي تم بموجبها التعامل مع المنتمين لحزب البعث بعد سقوط نظام صدام ادت الى ان يكون جميع المجتثين بعثيين عقائديين و عمقت تلك السياسة وما رافقها من تمييز اجتماعي شعور اولئك البعثيين بالندم على تركهم لرفاقهم و عودتهم راغبين بالعيش مع ابناء بلدهم.
ان التكتيك الذي اتبعته الحكومة العراقية في التعامل مع ما يحدث في سوريا سهل كثيراً على قادة جبهة النصرة و غيرها من التنظيمات المسلحة تعبئة عناصرها للأستعداد للحرب في العراق بعد سقوط النظام السوري. وقد اعلن قادة تلك التنظيمات ذلك في اكثر من مناسبة من ان هدفهم القادم هو اسقاط الحكومة في بغداد لاعلان دولة العراق و الشام الاسلامية الموحدة . فليس من المنطق ان يواجه العراق تحدياً هائلاً كهذا وهو منقسم شعبياً. و يضم بين ابناءه الملايين من المنبوذين ممن ليس لديهم دالة في هذا الوطن. هؤلاء يجب ان يتم احتضانهم و اعادة تفعيل الروح الوطنية لديهم وانتشالهم من الضياع و استثمار طاقاتهم لخدمة الوطن الجديد. وعلينا نحن ابناء الشعب العراقي ان نتحمل مسؤوليتنا الوطنية ونبادر قبل الحكومة الى احتضان من كانوا مخطئين في انتمائهم الى حزب البعث لقطع الطريق امام المخططات التي ترمي الى استغلال ضياعهم و انعدام شعورهم بالانتماء الى الوطن الذي نبذهم .
لذا نعتقد ان السيد المالكي قد ادرك خطورة الموقف و اتخذ خطوة جريئة وان كانت بطعم الحنضل لاعادة الغير مجرمين من البعثيين الى الحياة و منحهم فرصة اخرى لاثبات حسن نيتهم بدلاً من ان يتركهم مهيئين لأن يكونوا ادوات طيعة بيد من يخطط لقتل الشعب العراقي. وسواء كان المالكي قد اتخذ هذه الخطوة عن قناعة او انها فرضت عليه فانها خطوة على الطريق الصحيح .