23 ديسمبر، 2024 5:17 ص

قراءة نقدية…(خالٌ في خدّ السماء) قصائد تنفَّستْ روح الشاعر علي الشاهر

قراءة نقدية…(خالٌ في خدّ السماء) قصائد تنفَّستْ روح الشاعر علي الشاهر

المفرح في أن تجدّ ابداعاً يستحق القراءة، رغم هذا الكم الهائل من الاصدارات. والمأساة في أن تصغي وتضع الشمع على أذنيك، وتلبس نظارة سوداء حول الاخوانيات، والمصالح التي تقتضي ان ترفع الغث، وتترك السمين.. على الرغم مما احرزه المثقف –الشاب- العراقي من تقدم هائل في حقول مختلفة، خاصة بالنسبة للعلاقات والمفاهيم، لذا ينطبع الجيل الحاضر، الى حدٍ ما بالشك والحيرة والغرابة، والإخلاص في المسيرة الإبداعية وعكسها. أغلب النقاد المحليين وغيرهم يحذروننا من التأثر بالأهواء الشخصية أو الميل الفئوي أو التحزب على أنواع مشاربه. اذ يروا أن السبيل الى النقد النزيه هو انتهاج ما أسموه ” التقدير الحقيقي” وهي وسيلة تساعد على اكتشاف أي أنواع الشعر تندرج تحت طبقة الشعر الممتاز حقاً. هذه الوسيلة هي أن نتمثل في اذهاننا دائماً بضعة أبيات وتعبيرات لفحول الشعراء ونستخدمها كمحك لقياس قوة الشعر. ولكن على الرغم من هذه الوسيلة هناك تذوق خاص ودراية فطرية للجمال والاستحسان والرفض. إن أي متذوق للقراءة، متفتح الذّهن لا يفكر في عمق العروض والمقطعية الشّعرية.

إن الفكرة لدى كاتب الشعر لا توجه لغة الخارج، فالشاعر نفسه شبيه بلغة جديدة تبني نفسها، وتبتكر لِنفسها وسائل تعبيرية وتتنوع حسب معناها الخاص. هنا ما نسمّيه شعراً ليس سوى فرع من الادب الذي تتأكد فيه الاستقلالية في أبهى صورها. فالكثير من المتذوقين للشعر الحديث لا يعتبرون القصيدة شعراً ما لم يكن بها أنين وحكمة أو استغاثة، لذلك واحد من أصعب الأمور في كتابة الشعر هو أن يعرف المرء ما هو موضوعه ؟!. إن جلّ الناس يعرفون ولا يكتبون الشعر لأنهم واعون جداً للفكرة.. وبعبارة أخرى أكثر تحديداً وسيولة، إن القصيدة هي التي تخبر الشاعر بم يفكر وليس العكس !.

عالم الشاهر حول (خالٌ في خدّ السماء)

من هنا يمكن الدخول الى عالم المجموعة الشعرية الاولى (خالٌ في خدّ السماء) للشاعر والصحفي والاعلامي ( علي الشاهر)، الصادرة عن دار الفؤاد عام 2018، فالمجموعة تأسر وتجذب المتلقي من السطر الاولى حتى أخر المجموعة.. قرأتها بشغف متلقي وحاولتُ أن أصل الى الغاية والهدف لهذه التجربة الناضجة، فوجدُ أن الشاعر كان مصراً على عدم الوقوع في البسيط، بل كان موفقاً بموهبته اللغوية الرصينة فصاغها بلغة راقية وموفّقة.

اذ أرى أن ممهدة “الشاهر”، لن تنحصر في التعابير البراقة والاساليب المنمقة، بل أنها تتركز بالأمور الخاصة حيث تتجلى براعته في صياغتها ومزجها لتخلد في صورها الشعرية ذاكرته في الايام الصعبة التي لا يمكن نسيانها بسهولة. فالشعر في نظره تخليد وتركيز لا استرجاع، ومن هذا التخليد والتركيز تنبع الخصائص العديدة والفروع المتصلة في -زمكانية- نضوجه كانسان بخبرات متشعبة هي موضوعة ثيمة نصوصه الملتحمة، والتي تنم عن التحام الشعور باللاشعور ومزجهما بالوجدان الصادق المعبر عن حسه الانساني بفكرٍ عميق. علما أن الشعر نفسه يكفل أن يصبح لغة “انسانية” تماماً بصرف النظر عما اذا كان الشاعر يحاول أن يعكس داخلهُ الى خارجهِ، وهذا النوع من الشعر قد وصف بأنه شعر “مجرد” و”ملموس” على حد سواء.. ولأول مرة أقرأ مجموعة شعرية من الغلاف الى الغلاف بدون أمتعاض من كيانها.

الشاعر “الشاهر” شاعر يحفل عمقه بالعائلة والاماكن والاشياء التي عشقها في حياته وتركت اثارها في صميم مشاعرهِ، وهو استغراق نشيطاً قائماً على التبادل بين الواقع الملموس بالخارج، وخيال المفعم بالمستقبل. وقد كتب قصيدته الاولى (أمي) بإحساس ولادة شاعر، ينتقل بصورها بفنية أدبية خفية لا بذاكرة مكشوفة بين الحاضر والماضي، موحيٌ بالهوة التي أصبحت تفصل بين الشاعر واسرار بيئته. فالاستنتاج لمطلع القصيدة..

/أميّ قبعةٌ ناضجةٌ / وأبي صوفيٌ ساحرْ/ أوشك أن يخرجني ربّاً / فاخترتُ بأن يأتي الشاعرْ!/ ..

الابيات عوملت على أنها نوع من البيان الخاص بالشاهر، كأنه يعلن أنه خرج شاعر رغم أماني الأبوين أن يربانهُ كانسان يشبه الملائكة قريب من الله بل هو صورة من صور جمال الله في الارض. هناك سر في هذه الابيات، سراً ما بين نضوج الأم وصوفية الاب الذي شبهه بالساحر، ربما لجمالهِ وخلقه، وربما انه صورة تشبه صورة الشاعر “الشاهر”. في قصيدة (أمي) سحر الامومة والابوة وطفولة، فالجميع عاش الحرمان والخوف في زمن حرب تأكل الرجال كما تأكل النار الحطب، لكن الانتصار الحقيقي كان لصبر الأم في نتاج تربية مفعمة بالتألف. كما في نص “ملائكة الارض” هي قصيدة تحمل صور مكملة لقصيدة (أمي) بها ايجاز بلغة الشعر، فتوحي للمتذوق بالمشاعر المثالية، فيلمس مباشرة الحقيقة؛ والغاية من القصيدة، لا عن تعبير العاطفة فحسب، بل بواسطة أهم الصفات الاساسية التي تعد قوام العمل أسلوبه الشعري، التصور والخيال والانفعال والتعاطف وقوة الاحساس والقدرة على نقل الاحساس. والشعر الجيد له القدرة على تشكيل النفوس وتدعيمها بإدخال البهجة عليها أكثر من أي شيء آخر وهذا هو الشعر الجيد الذي ننشده، يجمع بتفاصيلهِ بين البساطة والعظمة..

/”الدافئونَ حديثاً- الواثقون – الرائعون فماً، الواهبون دماً- السالكون طريقاً”/.

تفصيل قصيدة “ملائكة الارض” يقول ان هذا العمل بدائي يمتاز بصفة شعرية لا ينكرها أحد وهي تستحق الاشارة اليها. وذائقتي تميل الى القول بأن بيتاً واحداً يكفي دليلاً على السحر الكامن في شعر “الشاهر” أن بيتاً كهذا / قانعونَ بأنَّ الحربَ نُزهتهمْ.. وخلفهمْ طاسةٌ بالماءِ ترتعشُ/… يتميز بأسلوب وحركة من رحم الحياة، صورة من التراث الانساني المحيط بنا، قل ما نجدها في الشعر الذي يتبع بحور الشعر في تنظيمه الادبي.

وفي قصيدة (جنّة الشعراء) انفلات روحي نحو التجلي في كل ما هو نعيم بالحياة، وما يراه ” الشاهر” من حقيقة في وجه الخيال، ويرفض ما بالغيب من اسرار لا تعرف الا بالظن والتأويل والانتظار. فيقول:

/ فلا حزنٌ عليكَ ولا بكاءُ! .. كأنكَ لستَ من حمِاً وطينً.. وأنكَ في سجلِ الغيمِ ماءُ/..

صورة شعرية انسانية عالمية الفكر عميقة الوجود، تعتبر فكراً ملغوماً، بطاقةٍ فوق طاقة “الشاهر”، ويمكن القول أنها فوق طاقة أي شاعر في العراق في مرحلة النمو والنضوج. لكن يجب قراءة (خالٌ في خدّ السماء) باعتباره قصائد عقل وشعر، أن نقرأ “الشاهر” على أنه شاعر مبدع وفيّ بأغراض رسالته ومهمته فان شعره شأن روحه المتعلقة بالعائلة وماضي وذكريات بكل عنفوانها حولها الى دهشة مثيرة للإعجاب.

• الشاعر والمدينة وقلبه العاشق

ويظل” علي الشاهر” في شعره ملاصقاً قريباً جداً من عمق مدينته التي عشقها بعنف، بعتباتها المقدسة بأرصفتها بمكان يذكره بحبه الاول، فيقول في قصيدة ( لعنة الحبّ) / أنا ما نسيتُ لأذكركْ/ قلبي هواكَ فصوّركْ/ .. ويختم / يا بن الهوى / ما أجملكْ / ما أعظمكْ/ ما أطهركْ/ .. والعجينة الشعرية الاولى لهذه الصور عذابات فقدان الاب مبكراً، وعلاقته بالمدينة المقدسة(كربلاء)، وهي المحفز الابداعي دائم الفاعلية للشاعر في كل نتاج( صحفي وأدبي).. وظل أبيه ومدينة(كربلاء) يرقدان على قارعة قلبه، ولا تزال المدينة عشقه، تحمل صوت أبيه، في أعلى قدر من التوتر الداخلي للمشهدية واللغة مجبولاً بالعذابات ومحكوماً بالسرد الشعري، لا الثرثرة، بل الشعر السردي الذي لا يؤتى به الا لبعض الملائكيين( القديسين)، ما يؤكد هذا الكلام في قصائد (الى أبي- قدس الله الشعر قبرهُ) و( ربُّ بلا سحرة)،و( السيدُ الهامش)،و( الى ابي .. او اب الانسانية)، و(ج.م)، وعلى هامش المنفى)، و(باحثا عنك في رأسي)، و(سخرية القدر)، و(صور متشظية)، و(احلام ليست للنوم)، فهنْ كتبنْ بلغة شعرية يكمن فيها جذر الغموض، يجتهد “الشاهر” في تقريبها من المتلقي من خلال قصيدة ( الى أبي.. أو أب الانسانية) ../ فداكَ عمّكْ!/ والعرشُ يمسحُ/ يتمكَ النبويّ/ ..

هذه الصورة الشعرية المكملة لما سبقها أو لحقها، تفرض قوة القصيدة، والمتطلع لنجاح الشعر الذي يتعلق في الذهن ويبقى موضع دراسة وفرضيات ورمزيات شعر يتطلب أكثر من مجرد استخدام الأفكار استخداماً قوياً من أجل ارضاء الاخرين بل يجب ان يكون قوياً من أجل الحياة، اذ ينبغي أن يتم هذا الاستخدام تحت الشروط التي حددتها قوانين الصدق الشعري والجمال الشعري.

· شهادة الشعر.. هوية الاتحاد

قد الجميع يشتركون معي في الاعتراف بقوة شعر “الشاهر” وحصوله على هوية الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين، وحدها شهادة عظيمة لشاعريته المميزة. لكن من يعرف “الشاهر” ماذا يخبئ وراء نصوصه؟!. الكثير من المتذوقين للشعر وحتى النقاد يخفقون في رؤية السر الذي تمكن فيه روح القوة الشعرية الكامنة في نفسه، ذلك انها اساساً تكمن في التهذيب والسمو اللذين يحدثهما في الاسلوب الرائع النادر وقد يحس البعض بهذا الاثر دون ان يقدر ان يعلل سببه تعليلاً واضحاً. فالسر يمكن في روح الشاعر الذي يحاول ان ينهل البعض من هذا الاثر بجمال؛ حين ننتقل الى قراءة قصيدة (غناء القّصبْ)، وواضح من هذا الشعر أنْ الشاعر يقف وجهاً لوجه أمام عظمة بلاده من جنوب مترامي الاطراف وتاريخ واسع متخوم بالدم والجراح. ونجوم قصيدته أماكن وأشخاص وقف أمامها في حيرة بين حكاياتها وجمالها وعزيتها الى قلبه. ما الذي يفعله كانسان ليبقى ويؤكد ان هذه الاماكن هي كالأفلاك الدائرة منذ البدء..؟ لا تزول وكل ما حوله عزيز ومخلد دائم..؟! فيقول: / ومن الجنوب الى الجنوب حكايةُ البلد الجريح/ .. بالجمالِ الى السفوح صلّت بروحي كربلاء/.. وللجنوب شذى الذبيحِ ..لناصرية ..للمسلّةِ/. فالطبيعة كما يراها تتولد غير عابئة بالزمان والمكان، تصنع مصيرها الخاص، يحدوها أمل البقاء والديمومة، وهي تحيا بكبرياء، وكتفت بذاتها وهي دائماً حرة تتخلص من رواسب ماضيها وتوقد مشاعل الحاضر وهموم المستقبل، فامتلكت ناصية الأبدية. وهذا ما يوجع الشاعر فيصرخ عالياً : /ها هُمُ إعزازُ روحي!.. إعزاز وحقَّ الله إعزازْ/.

كذلك في قصيدة ( طاقائيل) نفس المعاناة والهموم، فهي امتداد لـ(غناء القصبْ)، ظل يلاحقه هاجس الامكنة والتاريخ يقول في مطلعها : / كأنّ باب الطاقِ.. حاضرةٌ تقهْقرَ عندها التأريخُ والتأويلُ/.

ويقلب طرفه في فضاءات كربلاء لعله يبصر ما يريحه من عقدة الخوف على تاريخ مشبع بالهموم والجزع والخسارات. فاذا نجوم سماء كربلاء تحدق فيها العيون بكماء فليس مصادفة ان يرسم صورة جنة لها : / وغاب هن قصد ابتعاد ليلُ ..يا باب حِطة كيف أطوقها ..أخاف على ظفائرها ..تفز ويجفلُ التقبيلُ! /.. فهل معنى ذلك أنه مؤمن بالمكان حين يخطو اليها بهذا الهاجس بقوله / يا باب ما طرقتْ بكف.. غير كفّ الامنيات ..اذا ما اسندت ظهري السنين لها ..وراح الحَيلُ!!/ .

ما يؤكد عشقه وصدقه الكربلائي قصيدة (همسةٌ في أذنِ الصباح) وهي ختام مجموعته.. تعتبر نظرة شعرية، تشبه أسلوبه الذي يعبر به عما يراه يجمع زمنين زمن الوفاء لكربلاء وأخر للعراق. هو ذا إذن زمنُ الوفاء…. لكربلاء / ويظل قبر الحسينِ السبط ينبوع الفداء/ .. وهنا تخدمه رحابته وحريته بطريقة جميلة مثيرة للإعجاب يضيف فيها الدهاء والذكاء الى جانب الرقة والوداعة، حيث لا يخلو اسلوبه من العيوب والمثالب.. فمقطع الزمن الثاني : هو ذا زمن العراق / مبدعين وصانعين ومجاهدين وناصرين / مسلحين بكل اشكال الدعاء /.

من خلال القراءة والتفحص لهذه التجربة الشبابية وجدت أن ” الشاهر الشاعر” يعيش هياماً في لغة الشعر وهوى شفافاً، ورهافة حسيه كان له رأيه في حياته ومجتمعه ووطنه من خلال الشعر حيث يفلسف ذلك في قصائد مختلفة منها (على هامش المنفى) و(احزان نصف الليل)و (سخرية القدر) و( أيها الغرق انت بريء) و(أثر الغياب) و(عرس)و( صور متشظية ) و(أحلام ليست للنوم)و(باقة من دموع)و (كائن حزين).. في هذه القصائد ابطاله مقاتلون وعاشقون ومحرمون، كانوا يعيشون ويعبثون حالمين بوطن، يظهرون ويختبئون ويختفون وراء قصائدهم في قلب مكانهم. ورثاءه في (باقة من دموع) يؤكد ان كربلاء التي يجتهدون في ضمها الى صدورهم كما يضمون احشائهم.. منهم ترعرع بها وسافروا عنها، ورحلوا الى الابدية.. لكن بقيت آثارهم الابداعية / وذاك شاعرك الممتد أضرحة / على الفراتين بالنخلات مؤتِزرا / . هذا وفاء لامتداد الشاعر الراحل (هادي الربيعي) الذي اصبح بؤبؤ عين القصيدة الشاهرية.

أعتقد ان علي الشاهر حقق ذاتاً شعرية خاصة به، وان ما يميزه اعتماده على الالفاظ بقدر صراعها لتجاوز هذه الالفاظ واعتمادها علاقة باندماجه كشاعر وصحفي في التاريخ والمجتمع. وبعد هذه القراءة اترك المتذوق للشعر مع هذه المجموعة وقد توخيت ان اقدم اكثر القصائد وعلاقتها بالشاعر واقربها الى روحه. ينبغي الالتفات الى طاقة الشاهر الشعرية والاحتفاء به انسانا وشاعرا وصحفيا.