22 ديسمبر، 2024 7:16 م

قراءة موضوعية لتظاهرات تشرين

قراءة موضوعية لتظاهرات تشرين

أشعلت تظاهرات تشرين  2019عن غير قصد صراعا” (فكريا” – اجتماعيا) أتخذ من المطالب السياسية والاقتصادية للمتظاهرين غطاءا” له .

فالصراع الجديد في العراق ، لم يكن صراعا” طائفيا” محتدما”  بين السنة والشيعة كما كان الحال في السنين السابقة  منذ  2003لغاية 2008 تقريبا” ، تلك الحقبة التي شهدت وتخللت احداثا” دموية مؤلمة ، مع استمراره بشكله السياسي متمثلا” بمحاصصة مؤسسات الدولة من قبل الاحزاب والكتل السياسية تحت لافتة حقوق  ممثلي المكونات  – في إشارة الى المذاهب الدينية المتصارعة – والذي انتج تقاسم السلطة فيها  تدهورا” في ادارة الدولة واخفاقا” في تقديم الخدمات الاساسية للمواطنيين التي  كانت سببا” رئيسيا” لانداع تظاهرات مطلبية عدة كانت اخرها تظاهرات تشرين 2019، والتي على ما يبدو قد انضجت  صراعا” فكريا” اجتماعيا” جديدا” ، سنسلط عليه الضوء ونتاوله بشيء من التوضيح في هذا البحث المتواضع .

الصراع الجديد

يبدو ان الحراك الشعبي في العراق لم يعد يكتفي بحدود مطالبه الاقتصادية المتمثلة بتوفير خدمات الماء والكهرباء والبنى التحتية وتحسين الوضع الاقتصادي وحل مشكلة البطالة ..الخ ، او المطالب السياسية الاصلاحية المتعلقة بالانتخابات ونزاهة  مفوضيتها المسؤولة عن إجراء الانتخابات وغيرها من المطالب السياسية التي تهدف الى اصلاح النظام  كما في سابقاتها من  التظاهرات التي حدثت خلال السنوات الماضية ولعل ابرزها تظاهرات  2011و 2015، حيث انتقل الحراك الشعبي نحو خطوات اكثر جراءة وبمطالب تؤمن بالتغيير الشامل والمعالجة الشاملة بدلا” عن الاصلاح الجزئي والمعالجات  ، حتى تجاوز الامر الى دعوات   (( اسقاط النظام )) كما ورد في شعارات الحراك او شعار (( نُريد وطن )) و (( نازل اخذّ حقي )) المعبران بشكل مختزل عن المطالب الشعبية بشكل مجمل عن رغبة المحتجين والمتظاهرين بنظام سياسي جديد لا يضم ايقونات الحكومات والبرلمانات السابقة ورموزها .  ومع العودة لتظاهرات تشرين الاخيرة ، فبالرغم من عدم معارضة احد لمطالب المتظاهرين وتأييدهم لشرعيتها وأحقيتها ، ابتداءا” من كبار رجال الدين والمراجع -الذين لهم السطوة والتأثير الكبيرين على معظم احزاب الاسلامي السياسي الحاكم- كذلك لم تجد تلك المطالبات الشعبية اعتراضات حكومية او برلمانية ، بل دُعمت تلك المطالب بالكثير من التأييد الخطابي الرسمي  ، الا انها للاسف خسر الحراك والمتظاهرين ما يقارب  600شهيد و  2500جريح نسبة هائلة منهم أُصيب بعاهات مستديمة جراء اعمال القنص الخطف  والقتل العمد او الاشتباك العنيف من قبل عناصر ومجموعات حكومية معروفة وعناصر اخرى مجهولة ، اطلق عليهم لاحقا” بـ الطرف الثالث (جاءت التسمية على لسان مســـــــؤولين أمنيين كبار ضمنهم وزراء امنيين في اشارة منهم الى وجود قوات تَقـــــــدّم وتمارس اعمال العنف وتستخدم القوة المميتة بحق المتظاهرين العزل (فيا ترى ما هو السر وراء تزايد الأزمة واشـــــتدادها دون حل يذكر على الرغم من توافق وتأيـــيد الجميع على مطالب الحراك الشعبي ومرور عام عــــــلى الحراك الجماهيري  ..!؟ ،

هل كان السبب الرئيسي هو مماطلات الاحزاب الحاكمة وتسويف سياسي فقط ؟؟ ام هناك اسباب اخرى غير واضحة وغير معلنة؟

حقيقة الأمر ، باستطاعة الباحث المختص ان يميز  بوضوح وان يشخص بعض الملاحظات عن صراعات أخرى مهمة رافقت التظاهرات العراقية الاخيرة ، صراع لم يكن ظاهرا” للعلن سابقا” وهو صراع ( فكري – اجتماعي )  ، صراع بين تيارين فكريين ، الاول هو التيار المحافظ الرجعي والثاني هو التيار المتحرر التقدمي والذي ظهرت ملامحة بشكل واضح في التظاهرات وما رافقها من افكار وشعارات وسلوكيات وطروحات لروادها ومرتديها .

التيار المحافظ :

يتمثل التيار المحافظ في تركيبته الهرمية من رجال الدين والعمامة الدينية المتربعة على رأس الهرم ، تليها الاحزاب السياسية الدينية (الاسلام السياسي) المنتفع كثيرا” من ايحاءات وتوجيهات رجال الدين المباشرة وغير المباشرة وانحيازه تجاه احزاب الاسلامي السياسي، الذين بدورهم لم يكتفوا يوما” عن لصق شعاراتهم وخطاباتهم مع ما يتناغم والعمامة الدينية وتأكيدهم دوما” ان عملهم السياسي تحت مظلة المرجعيات الدينية وتوجيهاتها .

تليها فئة وشريحة رجال العقال والعشائر المؤيدين في غالبيتهم للأحزاب السياسية الدينية ومراجعها الدينية ، ثم تحتل المليشيات العقائدية المسلحة صفة درع الحماية للتيار المحافظ ، التي أسست لنفسها شرعية عبر فتاوى دينية ، ومشاريع عقائدية ، وغُذيت تنظيماتها من خلال بنوك العشائر التي بدورها قد زجت العديد من ابناءها في تلك التنظيمات ، بعد ان انسجمت مع رغباتها البدوية في تحدي السلطات، والعمل فوق القانون او خارجه .

اما التيار التحرري التقدمي ، الذي لطالما كانت تركيبته ممثلة اولا بالمثقفين والمتعلميين والقوى السياسية المدنية والليبرالية ومناهضي سطوة الدين السياسي وحكومات الاسلام السياسي ،  ومن العلمانيين على اختلاف درجاتهم في العلمانية وتباينها ( المعتدلين والوجوديين والملحدين ) ، كذلك ينتمي الى هذا التيار اليساريون والحركات اليسارية التي في جوهر مطالبها هي الغاء الطبقية المطبقة بشكل من الاشكال في المجتمع العراقي ، وتحقيق العدالة والمساواة ،  والدفاع عن الفقراء ، تلك الاهداف التي انسجمت مع رغبة بقية فئات هذا التيار الاجتماعي السياسي  وتركيبة التيار الليبرالي المتحرر والتقدمي ، وكما هي طبيعة الحال انسجم طلبة المدارس والجامعات مع الافكار الجديدة والحراك النوعي الجديد ، واضاف الفقراء  والمحتاجين والمتضررين من النظام والبطاليين زخما” اضافيا” للحراك على الرغم من تأرجحهم نتيجة اعلام التيار المحافظ ومن يمثله وما يقابله في اعلام المحتجيين والمتظاهرين ، ولعل ابرز ما يميز هذا التيار التحرري هو تركيبته العمرية التي يغلب عليها فئتي الشباب واليافعين ،  والذي من الممكن ان ينبئنا بأزاحة جيلية طبـــيعية في شكل وتوجهات وعـــــقائد واخلاقيات المجتمــــــع العراقي القادم .

يعلم طرفا الصراع – كما يتضح في الخطابات المباشرة وغير المباشرة  السياسية والدينية والفكرية او من خلال الفضائيات او ايجازات افكارهم وطروحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي-  ان نتيجة هذا الصراع ونهايته هي من ستحدد المستقبل السياسي والاجتماعي لكلا التيارين ، حيث تضمنت الخطابات التركيز دوما” على تصوير المستقبل للمثقفين ، فدائما” ما كانت بروبغندا المحافظين واعلامهم الموجه هو التحذير من ولوج المتظاهرين الى السلطة لاسباب تتعلق بنشر الفساد الاخلاقي والفجور ، وتضييع القضايا الدينية وانهاء الاعراف المجتمعية المحافظة ومنها العشائرية – من وجهه نظرهم الخاصة – ، في حين وجه إعلام الحراك الشعبي المضاد على مبدأ الحريات الشخصية وعدم اشراك الدين والاعراف الاجتماعية في التأثير على رؤى وتوجهات الشعب ، والمطالبة بحكومة وبرلمان منتخب عبر آليات عادلة والعـــــــمل على ابعاد الاسلام السياسي عن الحكم من خلال التذكير بفســــــاده الحكومي وتحميله جميــــــــع المشاكل والنكبات التي تعرض لها البلد خلال السنوات الـ 17 المنصرمة .

الصراع الايراني الامريكي

هل انعكس الصراع الايراني الامريكي في العراق ، أم ان الصراع الفكري بين المحافظين والمتحررين  هو من وظف هذا الصراع لصالحه ؟

بالحقيقة لا يمكن الجزم بقوة بشأن تفسير السؤال اعلاه ، الا انه يمكن القول ان توظيف الصراع الدولي محليا” هو الاقرب للحقيقة والواقعية ، فعلى الرغم من ان التيار  المحافظ مدعوم جزءا” منه من ايران بشكل واضح وصريح ، الا انه لا يمكننا القول ان كل التيار المحافظ وتركيباته هي تتبع أيران بالكامل ، اما الولايات المتحدة فلا وجود لأي دليل واقعي وموضوعي واضح وصريح على مدى تأثيرها في الحراك الشعبي العراقي في تظاهرات تشرين 2019- 2020 بشكل مباشر كما هي ادعاءات تيار المحافظين المرعومة ، وان كل ما يقال من اتهامات بحق المتظاهريين بالعمالة للولايات المتحدة هو لا يتعدى كونه بروباغندا سياسية تهدف الى شيطنة التظاهرات وافشال مشروعها .

الذيول والجوكرية :

ظهر مصطلحا الذيول والجوكرية كرمزية اخرى تعكس وتوضح طبيعة الصراع الفكري الاجتماعي في العراق ، فكلمة الذيول ؛ غالبا” ما تشير الى المناهضين لحركة الاحتجاج والتظاهر المتبعين لارادة وسياسات ورغبات النظام الايراني ، في حين يشير مصطلح الجوكرية الموجه من قبل التيار المحافظ واتباعه نحو المتظاهرين   ( وان لم يكن على مستوى كافة الخطابات الرسمية ) الى مجموعات المتظاهرين الممولين من الولايات المتحدة والغرب الذين يقفون ضد احزاب الاسلام السياسي ( حسب دعاية المحافظين ) . ولكل الاسباب التي اوردناها وغيرها ، توكد بشكل لا يقبل الشك ، بان الصراع الحالي في العراق بجزء كبير منه هو صراع فكري – إجتماعي وصراع  جيلي ، قد وظف المطالب السياسية والاقتصادية ، ووظف الصراع الدولي الايراني – الامريكي لصالحه ، وان لا أمل في نهاية هذا الصراع دون تنازل احد الطرفيين او كلاهما عن بعض الافكار والمعتقدات ، واللجوء الى الحوار والتعايش بما يضمن حقوق وأحترام معتقدات الطرفين .