18 ديسمبر، 2024 10:07 م

قراءة معاصرة لغواية الانسان الأولى

قراءة معاصرة لغواية الانسان الأولى

بعيدا عن التفسيرات الدينية والتأويلات الفلسفية التي دفعت آدم ( عليه السلام ) وزوجه حواء لتناول التفاحة من الشجرة المحرمة التي أدت بهما إلى التعري والخروج المطلق من الجنة هبوطا إلى الأرض ، وكيف وسوس لهما الشيطان بمكره وغروره ودهائه وما ساعده من فطرة آدم وزوجه في الاستجابة ، فإن المعرفة ودافعيتها جعلتا آدم وزوجه رهن إجابة طلب إبليس لاسيما وأن باب دخوله كان الغرور ، ثم طمعا في جنة الخلد ، الأمر الذي دفع كليهما ـ آدم وزوجه ـ إلى اقتناص المعرفة ومن ثم الفوز بنتيجتها . فالمعرفة ليست كما يظن ويدعي رواد ريادة الأعمال المعاصرون اليوم بأن البوابة الرئيسة التي ينبغي أن نصل إليها ، لأنها بالفعل كانت منذ بدء شرارة الغواية الأولى صوب شجرة الخلد الحلم الذي يسعى يظل هاجسا ومحركا دون توقف أو خمود .
وانطلاقا من المعرفة التي ظلت منذ العهد البشري الأول غواية أولى تستحيل بمرور الزمن وتطور الأدوات والأساليب سهلة القنص و في أثناء البحث عن النواتج الفعلية لطرح العالمي الدكتور أحمد زويل العلمية والبحثية ، توقفت طويلا أمام بعض الأقوال الرصينة التي من شأنها أن تدفع بها وزارة التربية والتعليم على أغلفة الكتب المدرسية لأنها بحق خير دافع لنهل المعرفة ولتمكين العقل البشري ، ومن هذه الأقوال : عندي أمل كبير أن هذه الجائزة الأولى سوف تلهم الأجيال الشابة في الدول النامية وتحثهم على الأخذ بأسباب العلم والاعتقاد بإمكانية الإسهام في دنيا العلوم والتكنولوجيا على المستوى العالمي ” ، وهو هنا يتحدث عن فوزه بجائزة نوبل في الكيمياء .
ومن أقواله المتميزة أيضا : ” إن المجتمع العلمي له ثلاث دعامات رئيسة وهي العلم, التكنولوجيا والمجتمع فمن العلم تنشأ التكنولوجيا والتي بالتالي تساعد .علي تطويره والإثنان لا يتواجدان إلا إذا كان المجتمع يقدر ويدرك أهمية العلم” .
ودوما ما نجد أحمد زويل يعتز بالتاريخ العلمي الذي له فضل كبير على نهضة وتطور العلم في الغرب وقتما كان الغرب في غرق كبير وطويل في غياهب الجهل وفقر المعرفة ، فنجده يؤكد على حقيقة مفادها : ” الأوروبيين ليسوا أذكى منا ولكنهم يقفون ويدعمون الفاشل حتى ينجح … أما نحن فنحارب في الناجح حتى يفشل ” . ويعطينا الدكتور أحمد زويل روشتة إنسانية تدعم حق التخييل وقوة الخيال في تغيير الواقع للأفضل بل وجعله أكثر إنسانية لخدمة البشرية عموما ، وهذا ما وجده في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يقول : الجميل في أمريكا وهو ما جعلها تتقدم على العالم علميا، أن الخيال لا يقتل وليست له حدود وكل المؤسسات تشجعه، والعالم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، واذا لم يتخيل العالم ويحلم، سيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئا.
وفي ظل الحديث عن العلم والعلماء تجدر الإشارة إلى سؤال يفرض نفسه بقوة على عالمنا العلمي العربي وهو هل يختلف العلماء حول حقيقة مطلقة وهي أن الحجج والإحداثيات الداعمة التي تستخدم في تأييد العلم لا تستند إلى التعصب؟ ورغم أن الإجابة التي تفيد بالنفي تأتي بأن هناك ثمة اختلافات بين أهل العلم كونه يمثل أحد منطلقات بناء الإنسان المعاصر ، وهذه الاختلافات لا تأتي من باب ما يحدثه العلم في صناعة العقل البشري وتأسيسه لمواجهة التحديات المعاصرة ، بل من حيث تعصب أهل التخصص الواحد . فعلى سبيل المثال نجد اتفاقا بارزا بين المتخصصين في الفيزياء على إطلاقها العام ، لكن نرى في نفس الوقت التصارع وليس التسارع العلمي بين الفيزياء كأحد العلوم الأساسية وبين تدريسه في مدارسنا العربية وهذا الاختلاف لا ينشأ إلا في ظل حضارات في طريقها إلى التقويض وليس التشييد.
لكن تظل الفيزياء بمنأى عن اهتماماتنا الحياتية المعاصرة ، ومن سوء أنظمتنا التعليمية المنصرمة أنها أقنعتنا طيلة سنوات الدراسة البائسة أن الفيزياء مادة دراسية تنقضي بإعلان درجة النجاح أو الرسوب فيها ، وأن المتخصصين في هذا المبحث المعرفي بمعزل عن الحياة والكوكب الأرضي بأكمله ، والحقيقة أن الفيزياء بعيدا عن أهل تخصصها الأكاديميين هي استشراف مستقبلي لحياتنا وآلية أو إحداثية حتمية لفهم واقعنا الآني لرصد ما سنكون عليه بإذن الله في المستقبل البعيد .
هذا باختصار ما سعيت لتقدمة آخر كتب العالم الفيزيائي الأميركي ذي الأصول اليابانية الدكتور ميشيو كاكو Michio Kaku الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء لمشاركته الفعالة في نظرية الأوتار الفائقة والتي تعد بحق إحدى النظريات الاستثنائية الموحدة للطاقات في الكون . والكتاب هو ( مستقبل العقل .. الاجتهاد العلمي لفهم العقل وتطويره وتقويته ) والذي قام بترجمته هذا العام 2017 الدكتور سعد الدين خرفان أستاذ الهندسة الكيميائية بسورية التي لا تزال تل أبيب تسعى وتحاول وتهرول جاهدة إلى تقويض أركانها وتفتيت دعائمها مدعمة بالمد والرفد الأميركي .
وميشيو كاكو الذي يعمل أستاذا للفيزياء النظرية بجامعة سيتي في نيويورك ومؤلف العديد من الكتب العلمية ذائعة الشهرة والانتشار مثل كتب ( الفضاء المفرط ) ، و(ما بعد آينشتاين ) ، و ( فيزياء المستحيل ) ، و ( فيزياء المستقبل ) يشير إلى أن العقل والكون هما أعظم سرين من أسرار الطبيعة كلها ، ومع التقدم الواسع والمتسارع في تقنيات العلم تمكن العلماء من تصوير مجرات تبعد عنا مليارات السنوات الضوئية ، والتصرف بالجينات التي تتحكم في الحياة ، وتفحُّص المسار الداخلي للذرة ، لكن يفجؤنا كاكو بحقيقة أن العقل والكون مازالا يفلتان منا ، ومازالا يثيران دهشتنا ، مؤكدا أنهما ـ العقل والكون ـ الجبهتان الأكثر غموضًا وإثارة في العلم .
ولهذا ، فإن المستقرئ لحركة التفكير العلمي في الوطن العربي يقر شهودا بغير إنكار بأن فقر التكامل والوحدة بين العلم كنظرية وإجراءات تنفيذه وتطبيقه ليصير سلوكا اعتيادا لا يفي بمتطلبات مواجهة عصر لا يمكن توصيفه إلا أنه عصر الشهود العلمي والابتكار من أجل الريادة ، وليس كما تم تصدير الغرب لنا ثقافة التعلم للحياة والتربية المستدامة ، إنما الغرب اليوم لا يفكر في سعيه العلمي سوى للوصول إلى الريادة والتكن وامتلاك المعرفة من أجل تطبيقها لتصبح مجموعة من المعاملات الإنسانية اليومية التي يمكن أن تتجسد في ثقافة المأكل والمشرب والنظافة وارتداء الملابس وعادات النوم واليقظة .
ويقر ابن خلدون في مقدمته الخالدة البديعة حقيقة تاريخية لا تقبل مجرد المراجعة والتعديل ، هذه الحقيقة تقتضي بأن المغلوب دائما مولع بتقليد الغالب ، وهذا ما يشهده الرائي رأي العين في الإعلان عن المؤتمرات العلمية في مصر تحديدا، وخلاصة اليقين لا الظن أن بعض هذه المؤتمرات لا تتجاوز حد الاستخدام الافتراضي ـ كشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية ـ هو خير شاهد ودليل على ما وصلنا إليه من زيف أكاديمي وترهل علمي بمنتهى الصدق والملازمة. ومثل هذه الظواهر لم تعد تثيرني بالاشمئزاز من أوضاعنا العلمية وهذا التباطؤ في الحراك العلمي الذي صار يمثل تسارعا محمودا في أوروبا وشرق القارة الأسيوية ، لأننا باختصار وللعارفين فقط بأوضاع التعليم العلمي ندرك ما وصلنا إليه من مراتب متدنية جداً في سلم الجودة التعليمية والريادة العلمية بوصفها تفكيرا مميزا للعصر، رغم البيانات والتقارير الورقية التي باتت أشبه بالمتاحف الأثرية .
ولا أظن أن ما طرحه العالم المصري العالمي الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء من باب العبث ، حينما أكد أن مشكلة البحث العلمي في مصر لا يمكن حصرها في مسألة التمويل والماديات المرتبطة بحركة البحث العلمي ، بل إن المشكلة الحقيقية هي الإخلاص . وهذه النصيحة الرائعة التي تجسد تجربة حياة عالم مصري متميز تعكس يقين الحراك العلمي الذي لا يتعد الحصول على ترقية وظيفية أو لقب أكاديمي لا أن يصبح البحث العلمي نواة حقيقية في سلوك المواطن المصري الذي يذهب لعمله .
ورغم أن المهتمين بتجديد الخطاب الديني وبمواجهة الفكر المتطرف لايزالوا في صالة الانتظار أمام الخطاب نفسه دون الاستبصار إلى طبيعة العقل الذي ينتج هذا الخطاب سواء كان متطرفا مغاليا في تكفير الآخر ، أم متوازنًا مع طبيعة المجتمع المدني الباحث عن هوية طبيعية ، نجد الفيزياء أكثر شغفًا بالعقل المنتج لكافة أنماط الخطابات الفكرية والدينية والاجتماعية ، لاسيما وأن التطورات المعاصرة في الفيزياء خلال العقد المنصرم أسهمت في تفسير بعض إنجازات العقل .
فباستخدام تقنية MRI أمكن للعلماء قراءة الأفكار التي تدور بعقولنا ، هذا حقاً ، بل ربما يندهش المهمومون بتجديد الخطاب الديني ـ وأنا من هؤلاء ـ بأن علماء شركة IBM حاليا مغرورقون بإمكانية التواصل بالعقل مع الحاسبات الإلكترونية كبديل عن استخدام الفأرة أو الصوت ، ليس هذا فحسب ، بل دفع الفواتير ببطاقة الائتمان عن طريق قراءة الأفكار وتأليف أعمال موسيقية باهرة . وربما سيقص أحفادي بعد قرون قصصهم عن ما تناوله ميشيو كاكو في كتابه من أن العقل سيتحرر يوما ما في المستقبل البعيد من قيود الجسد ، ليتجول بين النجوم ، وربما سيكون بإمكان المرء أن يضع مخططاته العصبية بالكامل على أشعة الليزر وإرسالها بعد ذلك إلى أعماق الفضاء .
ووسط استكمال الدهشة التي تعتريني وغيري من استراتيجيات مواجهة التطرف الفكري والديني ومحاربة شيوخ وأئمة الزوايا التي أنتجتها ثقافة مبارك ودعمتها السنة الاستثنائية المضافة إلى عقود مبارك التعليمية على أيدي الجماعة التي حكمت مصر بغير خطة أو رؤية تستند إلى موجهات للعقل ، تطالعنا الفيزياء العجيبة بأن أحدث آلة في أدوات عمل عالم الأعصاب وأكثرها دهشة وإثارة هي الجينات الضوئية Optigenetics ، والتي اعتبرها عدد كبير من العلماء بأنها ضرب من الخيال أو المستحيل ، لأنها بالفعل كما يشير ميشيو كاكو عصا سحرية تسمح للمرء من خلالها تنشيط ممرات معينة تتحكم في السلوك بتسليط شعاع ضوئي على الدماغ .
وبعيدا عن توصيف المشهد التعليمي القائم حاليا ومنذ سنوات بعيدة في مصر على سبيل المثال والذي يمكن رصده بحالة الطالب المصري وما يتسم به من خصائص وخصال معرفية ومهارية ، لابد من التنويه عن ضرورة الأخذ بالطريقة العلمية أو بالمنهج العلمي في التفكير ، لاسيما وأن الطريقة العلمية أو ما يعرف بالتجريب هو أحد أبرز الوسائط الممكنة لحل الكثير من مشكلات الفرد والمجتمع في كافة المناشط اليومية الآنية والمستقبلية أيضا . وجدير بالذكر أن وقت الشروع في كتابة هذه السطور حول التفكير العلمي وأزمة الاهتمام به في مدارسنا المسكينة كنت أطالع كتابا رائعا ماتعا للرياضي والفيلسوف الإنجليزي برتراند رسل المولود سنة 1872 والكتاب بعنوان النظرة العلمية ، وسبب وصف الكتاب بالروعة والإمتاع جاء كون برتراند رسل أخذا في رحلة تاريخية عبر العصور المنصرمة لتأكيد المنحى العلمي والطريقة التجريبية في حياتنا .
فتحدث عن جاليلليو وكيف واجه منحة دوران الأرض وثبات الشمس حتى كتب وثيقة التخلي عن فكره بخط يده ، وتنازل عما جاء في كتابه الاستثنائي ” محاورات تدور على نظامي كوبرنيق وبطليموس ” ، مرورا بإسحق نيوتن الذي وصفه أساتذته حينما كان طاليا في كلية ترنتي بكامبردج بأنه رجل ذو عبقرية لا تصدق ، وداروين العالم جليل الخطر في تاريخ الثقافة كما ذكر برتراند رسل ونظرية الانتخاب الطبيعي ، ثم بافلوف عالم النفس الشهير الذب بدأ حياته مختبرا سلوك الكلاب ، وعلما آخرين سرد قصصهم العلمية في الكتاب الرائع .
والأجمل في الكتاب الذي يتناول نظرة الإنسان إلى العلم وطروحات العلماء أنفسهم ، هو الأفكار الفلسفية التي تخللت ثنايا الكتاب ، وهذه الأفكار لا تعد خروجا عن المألوف لقامة مثل برتراند رسل ، إذ هو الفيلسوف عالم الرياضيات المنطقي الاستقرائي والكاتب الشعبي أيضا ، ولعل سفره المستدام في شتى قارات العالم منحه رؤية وبصيرة أمكنته من رؤية صائبة للحقائق العلمية ، ويقول برتراند رسل أن العلم دل أول الأمر على المعرفة ثم استحال بعد ذلك إلى كونه قوة للتحكم في الطبيعة ، ويلخص رسل مهمة العلم في العصر الحديث في إيجاد صور جديدة للمجتمع البشري وإحداث تعديلات جذرية في حياة الأسرة .
وتحت عنوان جانبي ” كيف يفهم الفيزيائيون الكون ؟ ” بكتاب العالم الفيزيائي الياباني ميشيو كاكو ( مستقبل العقل ) يخبرنا المؤلف أن علماء الفيزياء حينما يحاولون فهم شئ ـ كظاهرتي التطرف والإرهاب مثلا ـ يجمع البيانات أولا ، ثم يقترح نموذجا أو استراتيجية عمل عبارة عن نسخة بسيطة عن الموضوع الذي يدرسه بحيث تلتقط تفاصيله الرئيسة ، ويمكن للعالم الفيزيائي توصيف هذا النموذج بسلسلة من المتغيرات ، ثم يستخدم الفيزيائي نموذجه للتنبؤ بالتطور المستقبلي بتمثيل حركاته . هذا باختصار ما ينبغي أن يكترث به القائمون على أمر تجديد الخطاب الديني لا من حيث المبادرات السريعة المفاجئة ، لكن من حيث تدبر الظاهرة وتحليلها واستقرائها بعناية .