إذا افترضنا وجود فارق بين مفردتي التبئير والتكثيف فإننا لابد وأن نلتقي بالقواسم المشتركة بين المفردتين ، مثلما نلتقي بالفروقات الحاصلة بينهما.
فالتبئير على الصعيد المعرفي والابداعي هو تقليص حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته . أما التكثيف فهو يلتقي مع مصطلح التبئير في عنصر الاختزال ؛ فكلا المصطلحين معنيان بتقليص مساحة النص الى ما هو أقل . غير انهما يفترقان في كون التبئير يقوم باختزال تفصيلات النص واعادة ترتيبها حول ما يمكن ان يطلق عليه بالبؤرة او النواة ، في حين لا يستدعي التكثيف ضرورة تشكيل مثل هذه النواة .
سنحاول من خلال نظرة قرائية متفحصة لنصوص مجموعة عبد الحسين العامر القصصية ( سيدة الوهم ) تقصي آليتي التبئير Focalisation والتكثيف Densification :
يفتتح القاص العامر نصه السردي ( الاختفاء في الضوء ) بفقرة مشهدية راصدة لمعتقل سري يحتل واحدة من غرف بيت يعود لأسرة يهودية مغادرة ايام اربعينات القرن الماضي .شخصية المعتقل والتي جرى اقتيادها الى هذا المكان تقف قرب النافذة الوحيدة للغرفة بزجاجها الملوث بالأصباغ .اما الفقرة التالية فيتابع القارئ بقية تفصيلات الغرفة وما سيحدث فيها من خلال رسالة تبعثها شخصية أخرى تبدو قريبة الى شخصية الكاتب اذ يصف باعث الرسالة ما دوّن على جدرانها من أسماء الذين مروا من هنا ، مثلما نلاحظ وجود صوندات بلاستيكية ، عصي وهراوات مما يتيح لنا معرفة انها تحولت من مأوى عائلي الى غرفة للتعذيب . تلك الغرفة مكعب شبه معتم عدا نافذة تسمح بدخول ضوء شاحب من مساحة مقشرة بحجم عملة معدنية صغيرة مشكلا منها اطلالته الوحيدة على الشارع الرئيس حيث بالإمكان توظيف ذلك الثقب الدائري لنقل مرئيات المكان الخارجي بدلالاته التي تنضح بكل ما يمت للحرية بصلة في الوقت الذي تظل الشخصية حبيسة اربعة جدران .
ومنذ بدء الإشارة الى الرسالة يلاحظ القارئ ان النص يجري سرده بصيغة الأنا او صيغة نحن :”بقيت واقفا قرب النافذة انظر الى ذلك الشارع من خلل تلك المساحة الصغيرة التي بحجم العملة المعدنية ” .
وبسعي من كاتب الرسالة للهرب من طقوس الغرفة الخانقة ، يهرب من خلال انثيالاته الى التعالق مع مشهد ظاهراتي يتمثل في :” النثيث الذي يتحول الى مطر سريع ،كنت اسمع رشقه ،كثرت خيوط الماء على الحائط ” . ومع الضغط النفسي الذي يواجهه السجين كاتب الرسالة ، فأنه يهرب الى اكثر من ملاذ .. ذكريات الطفولة ، احلام اليقظة ، كوة الضوء التي تتيح له ان يتأمل كائنات الخارج الحرة الطليقة: ” كل الامكنة تؤسس تاريخا لها .. جسورا وقناطر ، معابد وساعات ، اسواق وميادين ” ص 48( الاختفاء في الضوء ),بينما يقول في الصفحة الأخيرة :”
حلقت مع فضاء الحلم ودفاتر صباي يوم كنت امرح ومريم بنت جارنا ذات الشعر القصير، في الدرابين الموحلة قرب بيوتنا وهي تمطر ، ممتطيا حصاني ـ حصان
القصب ” ص49
من الجلي ان النص يتوفر وبقدر كبير على تقنية التبئير حيث يتمثل الموضوع المركزي للنص عملية إدخال مجموعة من المتهمين الى غرفة اعتقال مظلمة لا يتاح للسجين تأمل الخارج الا عبر مساحة مقشرة بحجم عملة معدنية صغيرة ، وعبر الهرب الى احلام الطفولة ، شكلا من اشكال النواة التي تقوم عملية التبئير بتكويرها .
اما النص المعنون ( غرف ) فجاء تجسيدا واضحا للتكثيف الذي اعتمده الكاتب و تجلى في مسار مشهدي ظاهراتي : ” الغرفة مكان مركب فهي مكان داخل المكان ( البيت ) بمعنى اخر انها مأوى داخل المأوى ” (غرف ) ص17 . ويمكن القول بوجود ثيمة مركزية هي الغرفة التي بدت ترصيفا لاشكال شتى من الغرف : “غرف سقوفها من الجندل ـ سيقان اشجار الغابات ـ وغرف الصفيح في احياء الزنوج والبائسين في امريكا وافريقيا ، غرفة مرزوك الحمال الاسود المفروشة بقطع الكارتون السميك : ” وفي احد جوانبها فراشه الأرضي العتيق وبجانبه قناني عرق الزحلة وصفيحة التنك وضع عليها الفانوس النفطي يدفئ به جلدة الطبلة ” غرف ص 19
ويستفيض الكاتب مستدعيا كل ما يمت للغرف بصلة : ” غرف للرقابة والممنوعات ، غرف ذات رفوف للمعاملات المنسية ، كما ان هنالك مكان مفترض في المخيلة لغرفة داخل الانسان : ” مكان مفترض للتوحد والبكاء ، للغناء بصوت عال ، للرقص للتعري بلا حرج ” ص22
وتتعدد ادوات القاص العامر مع تعدد النصوص القصصية فهو تارة يسعى الى التكثيف الشعري : ” كم اشعر بالأسف على ايام مرت ونحن نحمل المظلات ، ولم نعرف ان قمة النشوة هي عندما نتوشح برشق المطر ونحن نرى نهايات خصل البنات المبللة تنقط على الجباه ” من دفاتر احدهم .. من دفاتر مدينة ص 36 ويلجأ في لقطات أخرى الى التقطيع السينمائي : “برتابة متواصلة بدأ المطر في الخارج ناقرا بحباته على زجاج النافذة منذ بواكير هذا الصباح ” انتظار ص 29 مثلما يستخدم ادوات اخرى كالرسائل ودفاتر الذكريات والاستذكارات المعرفية سعيا وراء توفير اكبر قدر من التكثيف لمبنى النص .
ليس ثمة مفاضلة بين التبئير والتكثيف ذلك ان لكل نص تشفيراته ومفاتيحه ، متاهاته ومخارجه . وكثيرا ما اطلعنا على نصوص ذات تبئير معتنى بها غير انها نصوص بلا ذائقة والعكس صحيح .
تحت مظلتي كل من التبئير والتكثيف ثمة مطلب لم يوله الكاتب كثير عناية من اجل اعطاء نصوص المجموعة قدرا اكبر من الديناميكية ألا وهو الحوار وما يحتويه من رعود وبروق موحية . ونحن نعلم ان القاص عبد الحسين العامر قاص
قديم العهد بالكتابة السردية وسجله حافل بالنماذج القصصية الجيدة . كما ان للعامر قدرات كامنة على رسم شخوص شعبية كمرزوك وسواه ما يمنحه القدرة على تحريكها من اجل ابتكار تبئير او تكثيف خادمين للنص القصصي .
تظل (سيدة الوهم ) ، مع ذلك ، نقلة نوعية في مسيرة الكاتب عبد الحسين العامر الطويلة واضافة للمشهد القصصي العراقي .