22 نوفمبر، 2024 11:45 م
Search
Close this search box.

قراءة في وصايا المنصور لابنه المهدي

قراءة في وصايا المنصور لابنه المهدي

من أبٍ رشيد لابنٍ يريد له ان يكون رشيداً
الوصية :
————–
هي وثيقة مدونة من جهة رسمية معينة،بأمر شخص معين لشخص اخر ،يوصي بها حقوقا له وللاخرين.

والوصايا على نوعين مادية ومعنوية.فالمعنوية هي وصايا النصح والارشاد التي تعطى على سبيل العضة والاعتبار كوصايا القرآن الكريم للاباء في ابنائهم ,” وتواصوا بالحق وتواصوا يالصبر،العصر3″. ،ووصايا الخلفاء والملوك لابنائهم ومن يوصون له ( وصية الأمام علي (ع) لأبنه الأمام الحسن المجتبى).ومن وصايا الملوك وصية الملك أردشير بن بابك مؤسس دولة آل ساسان الى خلفائه،الذي حذرهم فيها من الأغترار في الدنيا والجاه والسلطان ،وان الزمان لا يؤتمن ولا جديد فيه.* أماالوصايا المادية هي وصايا الارث والتركات الموصى بها من شخص لاخر والمستحقين عليه،وهي ما يسمى بوثيقة تثبيت الحقوق المادية، والوصية المادية هي وصية ملزمة التنفيذ كما في قوله تعالى “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق ذلكم وصاكم به”.(1)

وللوصايا جملة فوائد منها،تحديد الحقوق للوارثين قطعاً للنزاع وبعداً للتخاصم فيما بينهم،لذا فأن الوصية في القرآن الكريم جاءت بعشرة آيات بينات ملزمة التنفبذ وهي مقدمة على الارث لقدرتها على تحقيق العدالة الخاصة المتعلقة بشخصٍ بعينه،وبوضعه المالي والاجتماعي والاسري،وبألتزاماته تجاه الاخرين. اذن فالتماثل غير موجود في الوصية .أما في الارث فالتماشل موجود فالناس متماثلون ، والارث والوصية يمثلان جدلية التماثل والاختلاف ،( وغالبية الوصايا جاءت في سورة النساء) . وبما ان المجتمع الانساني يقوم على التنوع في الشروط المعاشية والاسرية والاجتماعية والالتزامات ،فقد تم تفضبل الوصية على الارث يقول الحق :”كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيراً الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقاً على المتقين،البقرة 180″(3). وهذه الاآية الكريمة تأخذ بها عالبية الدساتير العالمية ومنه على وجه الخصوص الدستور الأمريكي المُحكم العظيم.

ان هذا الامر القرآني انسحب على جملة الوصايا الاخرى حتى عدت الوصية ركناً مهماً من اركان سياسة الخلفاء والملوك لحفظ المودة والرحمة بينهم وبين الابناء ومن يواليهم من الناس،لكن الكثير من هذه الوصايا كانت سبباً في الاقتتال بين الاخوة كما في وصية الرشيد لولديه الامين والمآمون التي كتبها وعلقها في الكعبة ، والتي ادت فيما بعد الى التنافس والتناحر وقتل الامين بيد اخيه المآمون في بغداد،رغم ان حقيقة الخلاف كان عربيا فارسياً بأمتياز..،وسنحاول اعطاء نماذج من هذه الوصايا التي بها تم التوازن الاجتماعي والاسري والحقوق السياسية والاجتماعية .لكن الذي يعنينا هي وصايا الخليفة المنصور لابنه المهدي الذي اراد له ان يكون رشيداً من بعده حتى لا يسقط في حبال مؤامرات حاضرة الخلافة من بعده.

فهل يتعض الحاضرون من السابقين…؟

بعد ان اخذ المنصور البيعة لابنه المهدي،توجه له بالنصح والارشاد،ورسم له الخطوط العامة التي ينتهجها في حكم رعيته،لتكون بمثابة دستور لدولته،يتضمن الملامح الرئيسية والاساسية التي يرتكز عليها الحكم وتسير بموجبه الدولة ،ولهذه الوصايا اهمية بالغة لانها تعتبر بحق حصاد خبرة الرجل وتجربته طوال حياته وسنوات حكمه.نتمنى لحكامنا اليوم وهم في محنة السلطة ان يقرأوا مثل هذه الوصايا ليأخذوا منها العضة والعبرة والدرس لتصحيح المسار لعلهم يصلوا الى ما يهدفون اليه من امر ولاية الدولة والامة،رغم تفضيلهم السلطة والمال على حقوق الله.

2

لقد ركز المنصور على وصايا المال والارشاد والمواعظ والوصايا السياسية وسنحاول اعطاء صورة واضحة لها:

الوصية المالية

——————

:-هذه الوصية تتعلق بأموال الدولة وديونه والتزاماته الاخرى فيقول:”… وأنظر هذه المدينة – يقصد بغداد المدورة-،وأياك ان تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الاموال ما ان كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لارزاق الجند والنفقات للرعية ومصلحة الثغور ، فأنت لاتزال عزيزا ما دام بيت مالك عامراً.

وكأن المنصور اراد ان يقول له ان بغداد هي الام لوطنك العراق فلا تضحي فيها ابدا ،هواؤها عليل ،وماؤها كثير، وتربتها صالحة ، واهلها نخب وشهم.لقد كان حريصاً على اموال الدولة لحد انه وصف بالدوانيقي البخيل،لكنه لم يكن من هذا الطراز من الناس بل كان مؤمنا ان السرقات والتبذير والفساد والأنقسامات ستنهي دولة الخلافة، وكان ظنه صحيحاً. لذا على من يحكم ان يكون يقظاً .

وصايا الارشاد والمواعظ

————————-

كانت مثل هذه الوصايا صفة متداولة بين الخلفاء يقدمونها لمن يخلفهم في ادارة الدولة، فيقول المنصورلابنه المهدي الذي لمس فيه ضعفاً في شخصيته وتقصيرا في ادارته :”يا ابا عبدلله استدم النعمة بالشكر ،والمعذرة بالعفو ،والطاعة بالتآلف ،والنصر بالتواضع ،ولا تنسى مع نصيبك من الدنيا نصيبك من رحمة الله ،ولا ترفع اصبعك تكبراً على الاخرين، ولا تدعي علما لاتعلمه، وامراً لاتدركه،ولا تبرم امر او عهدا حتى تفكر فيه ،فأن فكر العاقل مرآته ،تريه حسنه وسيئه،،ولا يصلح السلطان الا بالتقوى ولا تصلح الرعية الا بالطاعة ،ولا تعمر البلاد بمثل العدل، ولا تجلس مجلسا الا ومعك من اهل العلم من يحدثك ،ولا تقبل استشارة الا من اهل العلم والعدل والانصاف،وان جدك رسول الله(ص) قال ماخاب من استشار.

وصية بليغة كتبها البلغاء والعلماء واهل العقل ،لان العقل هو اساس الحياة ،فالاسلام دين العقل ،فلا تهمل عقلك ،ولا تركن على غير ثقة، ولا تقرب المنافقين والانتهازين واصحاب الوجوه المتقلبة ، فأن ما تعمله اليوم محاسب عليه غداً وان حسبت الدنيا لك .

الوصية السياسية:

——————–

أذا كانت تلك الوصايا والتعاليم التي خلفها المنصور لابنه المهدي تتسم بصفة الوعظ المستعجل والكلام الشفاهي الذي يقال في المناسبات العامة او الخاصة ، فأن الوصية السياسية قد اعتنى بها وكتبها بعناية خاصة لانها تمثل حصاد خبرة الرجل في الحكم والسياسة ،تلك الخبرة التي حاول مخلصاً ان ينقلها لابنه المهدي على شكل عبارات متلاحقة اشبه ما تكون بالقوانين والقواعد التي لا يراد لها ان تخرق. ونتمنى لقادتنا اليوم ان يقرأوا تلك الوصايا ليتعلموا منها الدروس قبل فوات الاوان. ان طول الوثيقة لا يسمح لنا المقال بنشرها ،لذا سنحاول اعطاء مقتطفات منها والتعليق عليها .

يقول المنصور فيها موجها كلامه لابنه المهدي:

——————————————-

“.يا بني….أتق الله فيما عُهدَ اليك من امور الناس،…..اياك والدم الحرام ،فانه حوَب عند الله عظيم،……والزم الحلال وابتعد عن الحرام ،……ولا تسعى في الارض فسادا،…. وأقمع المارقين واقتل الخارجين الظالمين للناس،… واحكم بالعدل ولا تشطط، واحفظ بيضة البلاد ولا تتهاون فيها لغريب او عدو، وأفتتح عملك بصلة الرحم والناس ولا تقهر واحدا ولا تظلم أخر ،… وأياك والاثرة ،وتبذير اموال الرعية ،ووسع المعاش وسَكن العامة ولا تُهجر واحدا منهم .واتق الله ،فأن النوائب غير مأمونة ،والحوادث غير مضمونة،ولا تؤخر عمل اليوم الى الغد…. وباشر الامور بنفسك ولا تعزلها عن الناس ،ولا تركن على غير ثقة ،واسيء الظن بمن حولك من كتابك ومستشاريك…. ولا تنم فأن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة ، ولا دخل عينيه غمض الا وقلبه مستيقظ ،هذه وصيتي والله خليفتي عليك”.

تبدأ الوثيقة بنبرة دينية هادئة ،يحث فيها الوالد ولده على العناية بامور الناس والدولة،والابتعاد عن الحرام ولزوم الحلال ،واقامة الحدود وعدم التفريط بالوطن،والألتزام بالأوامر والنواهي القرآنية التي جاءت في آيات الحدود،ثم

3

ينتقل بوصيته بعدم الاعتماد على المارقين والمنافقين واصحاب الوجوه المتلونة،الذين لا يؤمنون الا بمصالحهم الشخصية بعيدا عن مصلحة العامة، وبكلمة أدق ان هذه الالفاظ المتعددة ليست الا ذات دلالات سياسية واحدة هي المناوؤن للدولة والخارجون على القانون،والذين يريدون اسقاط الحكم بالقوة،والخليفة يريد لدولته ان لا تسقط بعد ان بناها بالعرق والكفاح المرير ،وان يؤمنً الامن والاطمئنان والكفاية والعدل للناس، فهي تلك شروط الاسلام ،وليكن حريصا على المال وبه يصان الوطن ،وبكلمة معاصرة السياسة الاقتصادية للدولة ،حين يحذره ،اياك والتبذير لاموال الرعية ،لان المال مال المسلمين ،لا يجوز الاعتداء عليه (انظر وصية الامام علي(ع) في المال العام…؟ لذا فقد اولى هذه الوصية الاهتمام وصاغ كلماتها من اهل الخبرة والاخلاص،فالاوطان فيها عزة الخلافة،وفي رضاها محبة الشعب والاستدامة .

لم تكن وصايا الخليفة المهدي هي الوحيدة التي راجت في ذلك الزمان،فتقف وصية الامام علي(ع) لابنه الحسن كالطود الشامخ في توجيهها وسر مفعولها حين يقول”يابني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك ،ولا تظلم كما تحب ان لاتظلم،ولا تقل ما ليس لك فيه علم،ولا تتخذعدو صديقك صديق ،وتجرع الغيظ، وخذ على عدوك بالفضل ،فأنه احلى الظفر، ولا تركن لخضوع واستكانة ،فما اقبح الخضوع عند الحاجة. وكلمات ونصائح اخرى كثيرة على الحاكم والمحكوم ان يقرأها وينمعن فيها ،ففيها صلاح الامة والنفس معاً.صدقت يا ابا الحسن يا أمير المؤمنين.

نعم ان وصية الخليفة المنصور تعد وثيقة ذات قيمة سياسية وادارية عالية في تلك الحقبة من عمر الدولة العباسية.صادرة من اب رشيد يريد للولده ان يكون رشيدا.نتمنى لمناهجنا الدراسية احتوائها لتتعلم منها الاجيال الحكمة والموعظة وحسن الخلق والالتزام.

كل الوصايا القرآنية والانسانية سواءً من العلماء او الحكماء او الخلفاء او الامراء كان هدفها ارشاد الناس نحو الصلاح والفلاح والابتعاد عن الاعوجاج حتى تستقيم الحياة ويعطى كل ذي خق حقه،فالدولة لا تستقر الا بعدالة القانون.لكن رغم الحكمة والوصايا الكثيرة فأن اغلب الناس لايتعضون،وخير مثال ما فعله العباسيون بأعدائهم حين سلطوا عليهم السيف والنطع ولم ينصاعوا لدين او حكمة او وصية حين قتلوا قادتهم ومن جاء بهم الى سلطة الحكم كأبي سلمة الخلال وابو مسلم الخراساني والبرامكة وبني سهل وغيرهم كثير.ولا زال حكامنا الى الان يتقاتلون على ما تقاتل عليه العباسيون فندموا.

وانا اكتب هذه السطور القليلة لكي اقول ذلك للناس ،ليس هناك احسن ولا احلى من الصدق والاعتدال والالتزام بحقوق شرع الله والسراط المستقيم،والا فالكل في خانة الخسارة المحتمة منحشرون ،اجلا ام عاجلا،ويوم لا تنفعهم لا اموالهم ولا اولادهم ولا هم ما يكنزون.،فعلينا ان نعترف اننا لم نستثمر قرآننا واحاديث نبينا الا للاستهلاك المحلي في ارضاء انفسنا المريضة والبعيدة عن كل صلاح وفلاح ،وان اسلامنا المطبق علينا اليوم هو ليس اسلام محمد(ص) بل اسلام الفقهاء .وسنبقى كذلك ان لم نعِِ الاية الكريمة والحكمة والوصية ،وننقلها من النظرية الى التطبيق ،ساعتها سنكون امة لها مقياس حضارة جديدً.

يمر الوطن العراقي اليوم بمحنة سببها الخطأ المرتكب من حكامه الجدد الذين تجاوزا الخط الاحمر في حقوق الاوطان والشعوب والثوابت الوطنية ، وما وعوا عملا ،ولا صانوا وصية،ولا ألتزموا حديثا نبويا شريفا ،ولا آية قرآنية حدية في حقوق الوطن والمواطنين،فراحوا يعبثون في الوطن وكأنهم غرباء عنه، وبالمال العام وكأنه غنيمة، وتحالفوا مع الاعداء وسمحوا لهم بأحتلاله وتدميره خلافا لما اراد الله ،وتسامحوا مع الطامعين في الثوابت الوطنية ،فباعوا ارضهم ومياههم ونفطهم للاخرين ،وتفاوضوا مع الأخرين وكان المفاوض عدوا لوطنه ميالا مع حقوق الأخرين ،كما في مفاوضات البند السابع الذي اتخذوه ذريعا للكسب الحرام وتحميل الوطن فوق ما تدعيه معاهدات السلام،ولم يعاقبوا احدا من الخائنين والمزورين الا من رأوا فيه خطرا يهدد حكمهم ،فعبثوا في الوطن واحتلوا مراكزه المتقدمة فأفسدوا كل نافع فيه ،فصبوا عليه نار الحديد،ولم يلتفتوا لنصيحة ولا لناصح بعد ان غرتهم الدنيا بالسلطة والمال الوفير بلا رقيب او حسيب،والنفس امارة بالسوء كما يقول القرآن الكريم .

،فعميت قلوبهم قبل عيونهم واصبحت عليها غشاوة لا يرون الحق الا باطلا،ولا الاستقامة الا أعوجاجا،ولا الصديق الحق الا عدوا،ولا العدو الخائن المتملق الا صديقاً ،ففسحوا المجال لكل خائن يخون،ولكل سارق يسرق،ولكل مزور يكتب،ولكل باغٍ يريد .

4

وها هي النتيجة اليوم ، الكل حيارى فيما هم فيه والغون بعد ان حاصرهم الخطأ ،وضاقت عليهم الدنيا بما رحبت،حتى اصبح الصعاليك من امثال الدواعش والطامعين يأمرون وهم يستجيبون ، وكأنهم سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد… فهل يدركون ؟ لقد فات المعاد عليهم فعليهم ان يعترفون…..؟

انظر الوصية في الطبري الرسل والملوك ج8 ص 72 وما بعدها.

*[email protected]

أحدث المقالات